إثنوموسيقولوجيا-أنثروبولوجيا الموسيقى : الموسيقى أوّلا أم الإنسان ؟

ethnomusicology-anthropology-of-music-music-first-or-human

الكاتب : محمد المصمودي | أستاذ مساعد، جامعة صفاقس، المعهد العالي للموسيقى.


خلاصة :

تسعى هذه المقالة لطرح أسس الاختلاف بين وجهتي البحث الإثنوموسيقولوجي، النظاميّة والثقافويّة، والتبسّط في إبراز مزايا كلّ منها، وعرض التحديات التي باتت تواجهها في زمن العولمة. وتقدّم في جانب آخر آفاق مقاربة جامعة متعدّدة الاختصاصات تستمدّ مرجعيتها من كتابات المنظرين العرب الأوائل، ومن نتاج الجهد العلمي الإنساني المتّجه نحو التعمّق في دراسة السياق من أجل إدراك كنه الظاهرة الموسيقية. ونحن نعتقد أن هذه المقاربة تعيد التوجّه النظاميّ إلى المسار الأنثروبولوجي ذاته، باعتباره يسعى جوهريّا لتبيّن جوانب من البنى الذهنية التي صاغت المدوّنة الموسيقية وتداولتها.

الخلاصة بالفرنسية | الخلاصة بالانقليزية


    • لذكر مصدر المقال : المصمودي، محمد، 2017 : «  إثنوموسيقولوجيا-أنثروبولوجيا الموسيقى : الموسيقى أوّلا أم الإنسان ؟ »، المركز التونسي للنشر الموسيقولوجي، https://ctupm.com/ar/ethnomusicology-anthropology-of-music-music-first-or-human
  • حمّل المقال في صيغة  PDF.

مقدمة

يستأثر الموضوع الاثنوموسيقولوجي مكانة بارزة في بحوث طلبة المعاهد العليا للموسيقى بتونس لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه، إذ تقترح عديد المشاريع المقدّمة للغرض تناول أحد أوجه النشاط الموسيقي في مجالات جغرافيّة ظلّت بعيدة عن دائرة الضوء العلمي، لتقتفي أثرها وتسجّل مادتها الصوتيّة وتُعمِل فيها العقل تحليلا واستقراء. فخلال العقود الثلاثة الماضية، ومنذ بواكير نتاج المعهد العالي للموسيقى بتونس وما تلاه في جهات أخرى، تعدّدت الأعمال البحثيّة المنجزة في الحقل الإثنوموسيقولوجي بتعدّد الأنماط المجمّعة تحت راية “الموسيقى الشعبيّة” أو “الموسيقى الصوفيّة”، وتعدّد التجمّعات الاجتماعيّة التي احتضنتها داخل القرى والأرياف والأحياء. وتباينت البحوث في توجّهاتها العامة وطرق طرحها لتناول الموضوع، وغاياتها من استقراء المادة الصوتيّة المجمّعة. وقد يعزو هذا التباين إلى تعدّد مسارات البحث الاثنوموسيقولوجي ذاته، واختلاف المنطلقات العلميّة التي تقف وراء استنطاق المادّة الصوتيّة باعتبارها محورا رئيسا للبحث، ومجمل الملابسات التي تحوم حولها وتؤطّرها في السياق الاجتماعي الثقافيّ العام.

وتبرز أهمّ استحقاقات البحث الاثنوموسيقولوجي منذ البداية في تحديد منطلقات الباحث النظرية والمنهجيّة قبل التوجّه صوب الحدث الصوتي-الموسيقي واستنطاقه والتفاعل مع عناصره وتحديد إشكالاته وفرضياته وضبط مراحل العمل الميداني المناسب له، باعتبار أنّ التموقع في المسار البحثيّ العام ضرورة يفرضها منطق البحث العلمي لتحديد مختلف الخطوات الرامية لإنجازه. وإذا ما انخرط الطالب المبتدئ في خطوات عمل ميدانية أو مخبريّة فاقدة للدعائم النظريّة بخصوصيات المبحث الاثنوموسيقولوجي ومسار تطوّره التاريخي واختلاف وجهات نظره في تناول الحدث الصوتي -موضوع البحث- وتعدّد مقارباته المنهجيّة والتحليليّة والتحوّلات الفكرية التي طرأت عليه خلال العقود القليلة الماضية، تشتّت الجهد الميداني المبذول – على أهمّيته- وضاع البحث بين إشكالات سطحيّة ونتائج هزيلة.

يقف الباحث على الميدان صوب اتجاهين يبدوان ظاهريّا متقابلين: المادّة الصوتيّة من جهة وصانعها من جهة ثانية. ويُطرح نتيجة لذلك تساؤل أوّليّ: أيّهما أولى بالاهتمام، الموسيقى أم الإنسان صانعها؟ وبأكثر توضيح: الاهتمام بالمادة الصوتيّة وتبئير النظر في خصوصياتها الفيزيائيّة والتركيبيّة وقياس نسب بعضها للبعض وعلاقة أجزائها بالكل، أم الاهتمام بالإنسان، في صيغة الجمع، المنشئ والباث والمتقبّل للمادة الصوتيّة، وبمجمل الملابسات المرتبطة بأنساق تداولها وتقبّلها؟ وماذا لو وجب الاهتمام بالاثنين معا وفي نفس الوقت؟ وإن كان الأمر كذلك، فكيف يكون السبيل لإبراز علاقة الارتباط والتكامل بينها؟

تشكّل هذه التساؤلات أرضيّة لصياغة الورقة المقدّمة، ونهدف من خلالها إلى المساهمة في رسم ملامح مسار المبحث الاثنوموسيقولوجي في علاقة بجوهر الطرح الأنثروبولوجي وإشكالياته العامّة، بالتبسّط في عرض المنطلقات الفكريّة والمنهجيّة لكلا التوجهين سابقي الذكر. كما تستعرض الورقة أبرز التحوّلات التي بات يشهدها مبحث أنثروبولوجيا الموسيقى في الفترة المعاصرة، وتأثير السياسات العولميّة عليه.

1. إثنوموسيقولوجيا أم أنثروبولوجيا الموسيقى

يتداخل مصطلحا إثنوموسيقولوجيا وأنثروبولوجيا الموسيقى التي اهتمّت بموضوع الموسيقى ذات التقاليد الشفوية حدّ الترادف، بقدر تداخل مصطلحي “إثنولوجيا” و”أنثروبولوجيا” في الكتابات العلمية المرتبطة بالعلوم الإنسانيّة حدّ التساوي في المفهوم الضمني. وعبّر سفيان الفقيه عن هذا الرأي بالقول: “تُعدّ أنثروبولوجيا الموسيقى والإثنوموسيقولوجيا مبحثين متجاورين يصعب رسم الحدّ بينهما، وربّما قد لا يستوجب الأمر ذلك” (FEKI, 2006, p.74). فقد اشترك المبحثان أوّلا في التوجّه إلى موضوع البحث نفسه، وتركّز اهتمام الروّاد الغرب خلال فترة هامة من القرن الماضي على الموسيقى ذات التقاليد الشفويّة داخل مجالات جغرافيّة اعتبرت نائية تمارسها مجموعات عرقيّة صغيرة وُصفت بـ”البدائية”، حتّى انفتح الاهتمام لاحقا إلى مختلف ثقافات العالم ليطال موسيقى المجموعات الاجتماعيّة المحليّة داخل المجتمعات الكبرى. كما اشترك المبحثان في منهج البحث المتبع لإنجاز الدراسات العلميّة، والمرتكز أساسا على العمل الميداني المباشر، والمواكب لمختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، حيث يستقي فيه الباحث معلوماته من خلال الملاحظة بالمشاركة. بيد أن قراءة مستفيضة للدراسات النظريّة الإثنوموسيقولوجية تبرز تباين توجهين رئيسيين في الأهداف الرئيسية للمبحث. فقد ناست البحوث الإثنوموسيقولوجيّة خلال مراحل تطوّرها بين تيارين متباينين نسبيّا: تيّار نظامي صرف ينطلق من المادّة الموسيقيّة المحايثة الخاصّة بالأقليات العرقيّة لفهمها من خلال البحث فيها واستخراج القوانين التي تحكم نظامها والتعرّف إلى طرق تنفيذها وتواترها، والوقوف على خصائص الآلات الموسيقيّة المستعملة فيها، وتيّار ثقافويّ ينطلق من أنساق الممارسات الثقافيّة ومن سلوك المجموعات التابعة لها لتفسير الظواهر الموسيقيّة وتداخلها مع مجمل تمفصلات الحياة العامة، وما يحوم حولها من دلالات ووظائف اجتماعية وتمثّلات نفسية وعاطفيّة.

1.1 الاتجاه النظامي

تركّز اهتمام التيار النظامي منذ البداية على المادة الموسيقية، المسجّلة مسبقا من قِبل الرحالة والمستكشفين والمتحفيين، أو المجمّعة آنيّا من الميدان، وتناولها الباحثون بالتدوين ثم التحليل المخبريّ، وسعوا من خلال ذلك ومن وراء المحاورات العديدة مع الممارسين للنفاذ إلى عمق بنيتها الداخلية واستخراج القوانين التي تحكم سيرورتها، بحثا عن النماذج المعيارية الخاصة بها، والتي من شأنها أن تساعد لاحقا على إنجاز عمل مقارن مع أرصدة مشابهة في مجالات جغرافية مختلفة. ويتشبّث “سمحا أروم” أحد أبرز روّاد التيار النظامي بصفة الموسيقولوجي التي يجب أن يضطلع بها الباحث في تناوله للمادة الموسيقية ذات التقاليد الشفويّة، والتي تميّزه عن باقي صفات الاختصاصات المجاورة بحكم تخصّصه في معالجة المادة الصوتيّة وتحليلها، فهو يعلن دون لبس: “الإثنوموسيقولوجي هو موسيقولوجيّ قبل كل شيء”(AROM, 2011, p. 173). ويحدّد بوضوح مهمّة الباحث بالقول: ” أنّ الدراسة النظامية للموسيقات الإثنية في سياقها الثقافي، أي في الموقع الذي تُمارس فيه، والأخذ بعين الاعتبار كل ما من شأنه أن ينيرها من داخلها، هي في اعتقادنا رسالة الإثنوموسيقولوجيا الحقيقية” (AROM, 1985, p. 878).

يتميّز الاتجاه النظاميّ بمقاربته التواقتيّة1 التي تعلّم البحث وموضوعه (المادة الموسيقيّة) مع زمن إنجازه، متجنّبة المقاربة التعاقبية التي تهتمّ بالتغيّرات التي طرأت على محتوى الرصيد الموسيقي جرّاء عمليات التفاعل البينيّ مع ثقافات موسيقيّة مجاورة، وملابسات تناقله بين أفراد المجموعة في المحور الزمني الممتدّ. وفي سياق نقده لتوجّهات “س. أروم”، يبرز “ج. ج. ناتيي” جوهر الطرح النظامي- البنيوي الصرف قائلا: “عدى النموذج والنظام، يعتبر أروم أن الكل الباقي –الرصيد اللغوي المتداول بين السكان المحليين والآلات الموسيقية المستخدمة والوظائف الخاصة بالتنفيذ والترابطات الرمزيّة- أي كل ما هو ليس موسيقيا بالمعنى المحدود للفظ، لا ينفع إلا للتحقّق من وجاهة إعادة بناء النموذج” ( SCHULTE-TENCKHOFF, p. 164).

يقترض روّاد التيار الأوّل من المقاربة اللسانيّة وفروعها أسسها النظريّة والمنهجيّة لدراسة المسألة الموسيقيّة انطلاقا من أنّ “كل موسيقى تقليدية تكشف عن نظاميّة مّا. وكما اللغة، فهي مجهّزة بنحوٍ معيّن، ومقيّدة في صفتها هذه بقواعد ترتكز عليها نظريّة محدّدة، حتى وإن كانت الأخيرة ضمنيّة في الغالب” (AROM et KHALFA, 1998, p. 5). وخلال مسيرة نصف قرن ويزيد، استفادت بحوث إثنوموسيقولوجيّة عديدة من المثال الفونولوجي للكشف عن السلالم الموسيقية الخاصة بموسيقات الجماعات التي توجّهت إليها، على غرار ما قدّمته “فيدا شينويث” (V. CHENOWETH) في بحوثها حول قبائل من غينيا الجديدة 2، أو عن الوحدات البنائيّة الموسيقية الدنيا الحاملة لسمات محدّدة والقابلة للتمييز بوضوح في اللغة الموسيقية الأمّ، وستكون في مستوى متقدّم مادة للبحث عن المعاني الدلالية التي تنقلها، على غرار ما قدّمه “فيليب تاغ” من بحوث 3. واستفادت بحوث أخرى من المثال التوليدي ومن نظريات “نعوم تشومسكي”، لتبرز المستوى التوليدي الكامن في ممارسات موسيقيّة محليّة، على غرار بحوث “يوديث وألتون بيكر” حول الموسيقى في جاوة. واستقطب المثال الجدولي 4 الذي قدّمه “نيكولا رواي” (Nicolas RUWET) للبحوث الموسيقولوجيّة اهتمام باحثين آخرين لدراسة أرصدة موسيقية من مناطق مختلفة من العالم. وتعدّ أبحاث سمحا أروم التي صدر جانب كبير منها في كتابه حول الخصائص الموسيقية في إفريقيا الوسطى إحداها وأبرزها، إذ اعتمدت على المقاربة الجدولية لاستخراج القوانين التي تنظّم البناء اللحني كما الإيقاعي والبرهنة على صفته البوليفونية الكامنة. ويرتكز التمشّي التحليلي على المنهج الشكلاني بالأساس، فيعالج المادة الموسيقية في مستواها المحايث بعد جمعها من الميدان، ساعيا لاستخراج النظام الداخلي الذي يحكم سيرورتها وتداولها وتناقلها بين أفراد المجموعة العيّنة 5. ويعتبر ج. ج. ناتيي “أن تصوّر س. أروم للموسيقى شكلانيّ بالأساس، وهو ينزع عنها كل أبعادها الدلاليّة” (SCHULTE-TENCKHOFF, p. 164) . وارتكزت بحوث متقدّمة أخرى على نتائج التحليل البنيوي لإنجاز مقارنة بين نظامين موسيقيين لجماعتين متقاربتين جغرافيّا إلى رصد السمات البنائية المشتركة ونقاط الاختلاف بينها، دون البحث في العوامل التاريخية والثقافيّة التي تقف وراء الاشتراك والاختلاف، كذلك الأبعاد الرمزية المرتبطة بكل الخصائص 6.

تؤكد مختلف الشواهد السابقة وغيرها أن الطرح البنيوي لدراسة الموسيقى ذات التقاليد الشفوية كان امتدادا لتيّار موسيقولوجي عامّ انجذب لأطروحات اللسانيات وما قدّمته من رؤى جديدة لتناول المسألة اللغويّة، ونسج بالتماثل علاقات بين اللغة والموسيقى وعرض الإمكانيات المتاحة للاستفادة من النظرية اللسانية في البحوث الموسيقية. ولا تخرج المقاربة السيميولوجية في الموسيقى عن دائرة الطرح البنيوي بشكل كامل، بل اعتمدت على التحليل البنيوي لمعالجة المستوى المحايث، أحد المستويات الثلاثة للنظرية السيميولوجية التي أرساها “ج. مولينو” وتعمّق في طرحها “ج. ج. ناتيي”، ذلك أن الولوج إلى عمق الاستراتيجيات التأليفيّة والاستراتيجيات التقبّلية لا يتحقق إلا بإنجاز حلقة الوصل بينها.

ورغم النقد الذي لاقاه التيار البنيوي بسبب تركيزه على المادة الصوتية في بعدها التواقتي وفي مستواها المحايث، فإن مزاياه برزت عديدة حتّى بالنسبة للطرح المقابل ولمناصريه. ولعلّ أبرزها كشفه عن الثراء الذي تزخر به موسيقات مختلف الشعوب المدروسة والتي كان يُنظر إليها في ماض ليس بعيد على أنها “سطحيّة” و”عفويّة” و”بسيطة”، فبرهنت أن وراء البساطة الظاهرية للمادة الصوتيّة أو للآلات الموسيقية نظاما ومنهجا وفكرا، إنما يعكس في جوهره عمق الفكر الإنساني الذي ابتدعها وتناقلها وغيّرها لتستحيل على ما هي عليه زمن البحث. وقد عبّر س. أروم عن هذه العلاقة بالقول: “لمن يبتغي دراسة البنى المعرفيّة التي من خلالها تنظّم جماعة بشريّة عالمها، فإن دراسة الموسيقى التقليدية تُعدّ معبرا مميّزا لذلك”( AROM et KHALFA, 1998, p. 5).

وجدير بالتذكير أن جذور الاهتمام بخصائص المادة الصوتيّة المجمّعة من الميدان بدأت منذ الارهاصات الأولى لمبحث الاثنوموسيقولوجيا حين كانت تُعرف بالموسيقولوجيا المقارنة 7، حيث توجّه اهتمام عدد من روّاد مدرسة برلين إلى تدوين المادة الموسيقيّة المسموعة – وفق نظرة خارجيّة تقارب بين المسموع وبين المكتسبات المعرفيّة للباحث في الموسيقولوجيا- قصد إنجاز مقارنات متعدّدة المحاور. فقد “اهتمّ هؤلاء الباحثين بالتمشيات الذهنيّة المرتبطة بالموسيقى (حينها كان علم النفس سيّد العلوم الإنسانية) اعتمادا على تحليل ارتفاع الدرجات والألحان، وعلى نظم تعديل الآلات الموسيقية، وعلى قياسات السلالم والآلات”( NATTIEZ, 1996, p. 1006). وتماهيا مع علم الأحياء قدّم الباحثان هورن بوستل (E. HORNBOSTEL) وكورت زاكس (C. SACHS) تصنيفا دقيقا للآلات الموسيقية التي تسنّى لهما التعرّف إليها في جهات مختلفة من العالم.

بيد أن تقفّي خطوات التوجّه النظامي في دراسة الموسيقى غير الغربية وفق المقاربة التعاقبّية سيقودنا بالضرورة إلى الجهد العلمي البالغ والبليغ الذي برز في البلاد العربية منذ القرن التاسع ميلادي مع كتابات الكندي (801م-873م) وابن المنجّم (855م-912م) والفارابي (872م-950م) وابن سينا (980م-1037م)، وبلغ علوّ المراتب مع المدرسة النظامية التي أرسى دعائمها صفي الدين الأرموي في المرجعين “كتاب الأدوار” (الأرموي، 1986) و”الرسالة الشرفيّة” (قريعة، 2008). لقد قدّمت مختلف كتب المنظرين الأوائل منهجا دقيقا للبحث في مكوّنات السلم الموسيقي العام المتداول في الممارسة العملية زمن كتابتها، حدّد نسب درجاته المختلفة ومختلف التركيبات المقامية الأساسية منها والفرعية، وعرض مجمل الأدوار الإيقاعية المتداولة معتمدا منهج اختزالها إلى وحداتها الرئيسية. واستطاع التدوين المبكّر لنماذج من الأصوات المغناة أن يقدّم صورة أوّلية حول الصياغات اللحنية الإيقاعية المنتشرة حينها. غير أن أبرز ما ميّز المسار التنظير العربي سابقا هي النظرة الشمولية التي تناولت بها المسألة الموسيقية ربطتها بمجمل العلوم المتداخلة معها كالرياضيات والطب وعلم الفلك وغيرها، وهو ما أرسى –بحسب تعبير محمود قطاط- لما صار يُعرف فيما بعد بـ”علم الإناسة الموسيقي” (قطاط، 2013).

2.1 الاتجاه الثقافويّ

برز بالتوازي مع الخط النظاميّ اتجاه ثقافويّ ركّز اهتمامه على البعد الإثنوغرافي في تناول المسألة الموسيقية في التقاليد الشفوية، وتبلور معه مقترح مغاير لاستقراء الفعل الموسيقي يؤكد على ضرورة تأطير الأخير ضمن سياقه الثقافيّ والاجتماعي العام، فينطلق من الخصوصيات الثقافيّة للمجموعة العيّنة ومن الأبعاد الدلاليّة والسلوكيّة المحيطة بالفعل الموسيقي سعيا وراء فهم أعمق للكنه الحقيقي للفعل الموسيقيّ. وينتقد روّاد التيار الثقافوي غلوّ الأوّل في الاهتمام بالمادة الموسيقيّة الصرفة، وإهمال الملابسات الثقافية التي كانت وراء نشأتها وتبلورها، مؤكّدين على أن الظواهر الموسيقيّة لا تُفهم إلا في إطارها الاجتماعي-الثقافي الذي تنتمي إليه.

ففي سنة 1964 أصدر – “ألان مريام” (A. MERRIAM) كتابه أنثروبولوجيا الموسيقى “وفيه يتحوّل منطلق المقاربة من الموسيقولوجيا إلى الأنثروبولوجيا، لأن فهم الظواهر الموسيقية، حسب رأيه، لا يتحقق إلا عند وضعها في سياقها الثقافي المنتمية إليه. ومن ذلك صياغة مريام الشهيرة الإثنوموسيقولوجيا هي دراسة الموسيقى في الثقافة” 8 (NATTIEZ, 1996, p. 1007). وفي تحديده للأسس النظريّة التي باتت تحكم مسار الإثنوموسيقولوجيا، وضّح “أ. مريام” جوهر التفرّع الثنائي للعمل الميداني ومنجزه. وهو يقول في هذا الصدد: “من ناحية أخرى، إذا كان الهدف فهم الموسيقى في سياق السلوك الإنساني، يتحوّل الباحث الميداني تلقائيا تقريبا إلى باحث أنثروبولوجي لانشغاله بأسئلة أكبر امتدادا واتساعا من تسجيل عيّنة موسيقية، تتناول ممارسة الموسيقى ووظيفتها، ودور الموسيقيين ومكانتهم، والمفاهيم التي تكمن وراء السلوك الموسيقي، وأسئلة أخرى مماثلة. فهنا يتمّ التركيز على الموسيقى ولكن ليست بمعزل عن سياقها الكليّ” (MERRIAM, 1964, p. 42).

وفي الباب الأول من الكتاب، حدّد “أ. مريام” ستة محاور للبحث والتقصّي تلخّصت فيما يلي:

    1. الثقافة الموسيقيّة في تمظهرها المادّي، وبالتحديد الآلات الموسيقيّة. وهو يتجاوز في ذلك الحدود الأورغانولوجيّة من تصنيف للآلة وتحديد مكوّناتها وقياساتها وجسها والسلالم المرتبطة بها، ليهتمّ بكل ما يمكن أن تطرحه من تساؤلات حول كيفيّة تعامل المجموعة معها وإمكانية ما تتميّز بعضها من تقدير وحظوة، ومدى اتخاذ بعضها رموزا مغايرة داخل النشاط الاجتماعي والثقافي، أو تحوّل بعضها لأداة تبليغ عن رسائل يتعرّف عليها أفراد المجموعة كافة، وارتباط أشكالها وأصواتها بمشاعر محدّدة أو باحتفالات معيّنة أو بدعوة للعمل، وغير ذلك.
    1. نصوص الأغاني وما يمكن أن تنبأ به من سلوك لغويّ بين المجموعة، والبحث في العلاقة بين الموسيقي واللغويّ، والمسائل المتعلّقة بالنص وما يراد له من معنى.
    1. أصناف الموسيقى وأنواعها، وفق رؤية الباحث للموضوع، لكن الأهمّ من ذلك وفق رؤية المجموعة المحليّة لمجمل الأغاني المشتتة.
    1. الموسيقيّ ذاته، في علاقة بمراحل تكوينه وارتقائه لرتبة الموسيقيّ، والطرق المتبعة لتحقيق ذلك، وبمكانته بالنسبة للمجموعة، وبمستحقّاته الماديّة والطرق المعمول بها لمكافأته ماليا.
    1. استعمالات الموسيقى ووظائفها، باعتبارها تتقاطع مع مختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والمعتقدات والرقص والفنون الدراميّة والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والبنى السياسيّة.
  1. الموسيقى باعتبارها نشاطا ثقافيّا خلاقا، بالتركيز على فهم التفرقة بين ما يمكن اعتباره موسيقى وما هو غير موسيقي، وكيفيّة بزوغ الأغاني الجديدة إلى الوجود، ومكانة المبدع في المجتمع، وكيف يؤلّف وما هي تصوّراته حول تمشّيات التأليف. 9.

ويظهر جليّا من وراء المحاور الستّة الاهتمام البالغ بالبعد الإنساني داخل الممارسة الموسيقيّة في مختلف تجلّياتها، ارتباطا بالتوجّه الأنثروبولوجي الذي وسم توجّه الكاتب، مقابل الصمت عن توجيه الاهتمام نحو الخصوصيات الدقيقة المتعلّقة بالمادة الموسيقيّة في مستواها التركيبي، بدءا بتحديد خصوصيات السلالم الموسيقيّة والمسافات الصوتية الفاصلة بين درجاتها وطريقة توليفها أفقيا أو عموديا وارتباطها بالجانب الإيقاعي وصولا إلى استخراج أدقّ التفاصيل الممكنة حول ملابساتها البنيويّة.

وفي نفس التوجّه، أكّد جوهن بلاكينغ (J. BLAKING) خلال تجربته البحثية التي أجراها بين شعب الفاندا (Vanda) في جنوب إفريقيا، على أهميّة البعد الأنثروبولوجي لدراسة الموسيقى ذات التقاليد الشفوية، مشيرا إلى أنه “على اقتناع بأن مقاربةً أنثروبولوجية لدراسة كافة الأنظمة الموسيقيّة تمكّن من فهمها بشكل أفضل من تحليل البنى الصوتية المأخوذة في حدّ ذاتها”(BLAKING, 1980,p. 9). ويؤكد بلاكينغ في كتابه “المعنى الموسيقي” 10 على عمق البعد الإنساني في تعريفه للموسيقى، فهي بالنسبة له “الصوت المنظّم إنسانيّا”، بما تحمله مفردة “إنسان” من أبعاد بيولوجية ونفسانيّة وثقافيّة واجتماعية.

ويتنزّل تبنّى المقاربة الثقافويّة لدراسة الممارسة الموسيقية ذي التقاليد الشفويّة في إطار الارتباط بمسار الأنثروبولوجيا الثقافية الذي سطع في ذات الفترة، والذي وجّه دراسة الإنسان نحو الاهتمام بالعناصر الثقافيّة. ويصرّ مريام على هذا التوجّه بالقول: “إذا افترضنا مرّة أخرى أن الإثنوموسيقولوجيا تنشأ من الميدان، وأن الموسيقى هي جزء من الثقافة، وأن المجتمعات التي يدرسها الإثنوموسيقيون كانت تاريخيا خارج المسار الغربي دوما، فإننا نتجه ضرورة إلى مزيد من افتراض أن المنهج الميداني وتقنيات الحقل لا بدّ أن تُستمدّ من الأنثروبولوجيا الثقافيّة”(8MERRIAM, 1964, p. 4). وقد اتخذ مريام من المنهج الوظيفي إطارا نظريا لإنجاز دراساته لقدرته على تفسير الأحداث الثقافيّة وإنتاجاتها في سياقها الاجتماعي وفق رؤية شاملة لا تعزل الجزء عن الكلّ. واقترح في المرجع الرئيس الذي وضعه عشر وظائف كبرى للفعل الموسيقي وردت على التوالي11:

    1. وظيفة التعبير العاطفي،
    1. وظيفة الإمتاع الجمالي،
    1. وظيفة ترفيهيّة،
    1. وظيفة تواصليّة،
    1. وظيفة التمثيل الرمزي،
    1. وظيفة الاستجابة الفيزيولوجيّة،
    1. وظيفة تعزيز التقيّد بالمعايير الاجتماعيّة،
    1. وظيفة تركيز المؤسسات الاجتماعيّة والطقوس الدينيّة،
    1. وظيفة المساهمة في استقرار الثقافة واستقرارها،
  1. وظيفة المساهمة في اندماج الفرد داخل المجتمع.

وقد أدّى هذا التوجّه إلى تغييب التحليل المعمّق للرصيد الموسيقيّ ذي التقاليد الشفويّة في المناطق أو الأقليات المدروسة، وتفويت الفرصة في التعرّف إلى قواعدها وقوانينها، وإثراء المعرفة الموسيقيّة عامة.

ولا بد من التأكيد على أن بحوث أنثروبولوجيا الموسيقى كان لها الفضل في ظهور محور بحث جديد عرف بالنظريات الإثنيّة (ethnothéories)، حيث انغمست في الكشف عن آليات “التنظير” المحلّية الخاصة بالمجموعة لمختلف الإنتاجات الثقافيّة الماديّة منها واللامادية. “ففي الوقت الذي اعتُقد فيه طويلا أن “المتوحشين” لا يتصوّرون مفاهيم لموسيقاهم، تنبّه كلّ من “هيغو زامب” و”ستيفن فيلد” إلى أن السكان المحليين يستعملون استعارات دالّة ومحدّدة لديهم للحديث في موسيقاهم، والتي يمكن تفكيك معانيها بردّها إلى سياق ثقافتهم وأساطيرهم ومعتقدهم الديني”(NATTIEZ, 2007 (2), p. 727). ويرتبط جوهر الفرق بين العناصر النظرية الراشحة من نتائج التحليل المخبري من طرف الباحث والعناصر المستمدّة من تفسير السكان المحليين أنفسهم لموسيقاهم بالفرق بين المقاربة الخارجيّة (étique) والمقاربة الداخليّة (émique) لموضوع البحث. ففي حين تستقي الثانية مصادرها من الفكر المحلّي وما يفرزه من تصوّر للممارسة الموسيقية في علاقتها بالرؤية العامة للحياة وللكون، تستخلص الأولى عناصرها النظريّة من نتائج التحليل المخبري الذي يجريه الباحث على المادة الموسيقية المجمّعة من الميدان، وتكون غير مدركة من قبل المجموعة صاحبة التراث من جهة ومغيّبة عن باقي التمظهرات الثقافيّة.

ويعاد طرح التساؤل الأول بعد الاطلاع على اختلاف الاتجاهين السابقين: أيهما الأجدر بالاهتمام وأسبق: الموسيقى أم الإنسان صانعها؟

3.1 الاتجاه الجامع

لم يمنع الانتماء إلى كلتا المقاربتين النظامية والثقافويّة والتأكيد على أهميّة كل طرح في تناول المسألة الموسيقية من الإقرار بمزايا التوجّه المقابل وإمكانية الاستفادة منه لتدعيم الوجهة المختارة. ولم يكن هدف التقاء التوجهين، الموسيقولوجي والأنثروبولوجي، المنشود غائبا في فكر أ. مريام، إذ أكّد في مقدمة كتابه “أن كلا الفريقين يتفقان على أن الهدف النهائي يكمن في دمج التوجهين باعتباره مثالي يتغيّر حتما بالواقع الميداني”(MERRIAM, 1964, p.vii).

يدرك المتعمّق في الموضوع تداخل الخطّين وتلازمهما من أجل فهم الظاهرة الموسيقيّة واستيعابها بشكل شامل. ففي جانب، يتدخّل النشاط الموسيقي في مختلف تمظهرات الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة ويعلّم أحداثها، بل يشكّل جزءا رئيسا منها وعنصرا فاعلا فيها، لا نشاطا متمّما وثانويّا، وهو ما يقتضي الإلمام بمجمل ما يرتبط بالمادة الصوتيّة المنبعثة اجتماعيا وثقافيّا واقتصاديّا وسياسيا ونفسانيّا وغير ذلك. وستسهم دراسة كل هذه العناصر عبر الفعل الموسيقي في دراسة المجموعة أو المجتمع بشكل مستفيض، وفي الإبانة عن جانب من رؤيتها للكون وللحياة. وفي جانب ثان، يبرز النشاط الموسيقي في شكله الماديّ أو اللاماديّ، أحد أبرز إنتاجات المجموعة التي تميّزها عن غيرها، وتستبطن في ثناياها صورة من صور الفكر الإنشائي الجماعي الذي أبدعها وارتآها سبيلا للتواصل والتعبير. وسيسهم الكشف عن عمق تركيبتها الداخليّة في تقديم زاوية نظر جديدة لخصوصيات المجموعة المدروسة لا يقدر على تحقيقها إلاّ الباحث الموسيقولوجيّ، وبالتالي في إضافة لبنة إضافيّة لصرح المعرفة في الإنسان. لذلك، انبثق من بين التيّارين خطٌّ جامعٌ يرى في تلازم النظامي والثقافويّ ضرورة ملحّة لفهم الظاهرة الموسيقيّة في بعدها الشامل، حيث تتفاعل عدة مستويات لإنشائها وتقبّلها وتطوّرها، ويلحّ على ضرورة عقد نقاط التكامل والعمل على سدّ الفجوة بين المقاربتين. ويحدّد ناتيي في هذا السياق التحدّي الراهن للمقاربة الإثنوموسيقولوجيّة في نقطتين:

    • “العمل، من جهة، على تبيان الارتباط بين المحيط الثقافي والظواهر الموسيقيّة بطريقة غير مجازيّة، مثلما هو الحال في كثير من الأحيان، أي تبيان الارتباط بين الموسيقى والثقافة بطريقة جليّة وواضحة.
  • إيلاء كل الاهتمام اللازم، من جهة ثانية، إلى مختلف مظاهر الترابط الرمزي التي تساعد على استيعاب ما أسماه مولينو الحدث الموسيقيّ الشامل” (SCHULTE-TENCKHOFF, p. 165).

ونؤكّد في هذا الصدد على الفرق الشاسع بين ربط المادّة الصوتيّة بسياق عرضها فحسب، وبين الكشف عن أوجه الارتباط بين الطرفين، والإجابة على تساؤلات عديدة منها: لماذا اختير هذه التركيبة اللحنيّة (مقام/طبع/طرق/صوت..) دون غيرها لهذا الحدث الثقافي الاجتماعي؟ كيف تتماهى التركيبة الإيقاعيّة مع الحدث وتفاصيله؟ لماذا يقتصر الأداء على هذه الشريحة الاجتماعية دون سواها؟ ما سرّ العلاقة بين الحدث والآلة الإيقاعية المستعملة؟ لذلك، فإن المسك بكلا الخطين والاستفادة منهما لدراسة الفعل الموسيقيّ يشترط بالضرورة الإلمام بمختلف المناهج المستنجد بها والتمرّس في الاستفادة منها لإنجاز الدراسة. وهو ما يستوجب تكوينا أكاديميّا معمّقا قد يستغرق مدة زمنيّة طويلة تؤجّل العمل الميدانيّ لحين، أو انخراطا في أعمال بحثيّة مشتركة ينجزها باحثون من مختلف الحقول، تحت سقف أكاديميّ جامع يرسم الأهداف العامة ويحدّد المحاور الكفيلة بإنجاز بحوث شاملة تقتفي أثر التقاطعات الظاهرة والمخفيّة في الحقل العام. فقد استفاد بلاكينغ نفسه من المقاربة اللسانيّة ومن طرح نعوم تشومسكي بالتحديد في تقسيم مستويات التحليل إلى مستوى ظاهري سطحي (البنى السطحيّة) ومستوى عميق (البنى العميقة)، واعتبر أن الاهتمام بالمادة الصوتية وتحليل البنية الموسيقية الصرفة يندرج ضمن المستوى الظاهري السطحي الذي لا يمكّن من إدراك المعنى الحقيقي للفعل الموسيقي، والذي يقتضي تحقيقه الاهتمام بالمستوى العميق المتمثّل في الإمساك بمختلف التمشيّات النفسيّة والاجتماعية والثقافية والبيولوجية. وأشار جوهن بلاكينغ في هذا السياق إلى أهميّة الإحاطة بمختلف جوانب الفعل الموسيقي بالقول: “في مستوى معيّن من التحليل، يكون كل سلوك موسيقي مُبنْيَنٌ، على أساس تمشيات بيولوجيّة، أو نفسانيّة، أو اجتماعية، ثقافية، أو موسيقيّة صرفة، ويتحتمّ على الإثنوموسيقولوجيا التعرّف إلى كل التمشّيات السديدة لتفسير الصوت الموسيقي” (BLAKING, 1980,p. 22). ورغم إعراضه عن تشبيه الموسيقى باللغة، يقارب بلاكينغ إحدى تحليلاته باقتراض أدوات من اللسانيات دون أن يقرّ بضرورة اتجاه الاثنوموسيقولوجيا لاعتمادها، ويستشهد بتحاليل السلوك اللساني التي قدّمها كل من إيريك لينّبرغ ونعوم تشومسكي (BLAKING, 1980, pp. 30-35).

ضمن هذا المسار التأليفيّ، انخرطت بواكير البحوث الاثنوموسيقولوجية التونسيّة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، دون التنظير لذلك بشكل معمّق. فقد فرض واقع الانتماء إلى الميدان المدروس الإلمامَ المسبق بسلطة الموسيقى، لحنا وإيقاعا وكلمة وجرس آلة وغير ذلك، على الفاعلين فيها والمتقبّلين، وبقوّة حضورها صوَرا وتمثّلات في المخيال الجمعي، ودفع نحو إيلاء الأهميّة للصنعة وصانعها على حدّ سواء. وفي هذا الإطار، قدّم الباحث محمود قطاط بحوثا معمّقة حول التقاليد الموسيقية في المغرب العربي لم تقتصر على حصر المسألة في بعدها النظامي الصرف، بل اهتمت بالمعطيات التاريخية الحافة بتشكلها خصوصا في ارتباطها بالسياق الحضاري الذي عرفته المنطقة وبمجمل التقاليد المرافقة للممارسة الموسيقية في البعدين التعاقبي والتزامني. وأبانت بحوث عديدة عن الدور الحقيقي الذي لعبه المغرب العربي في تشكّل الرصيد الموسيقي المتداول، والذي كثيرا ما نُسب إلى فاعلين من خارج المنطقة (قطاط، 1989). مراد السيالة أطروحة دكتوراه حول الموسيقى الصوفيّة في مدينة صفاقس 12، تناول فيها تأثير الأخيرة على المتقبّلين لها ماضيا وحاضرا ووقف على طرق تنظيمها وعرضها، خصوصا بعد إن انتقل تداولها من السياق التصوّفي الصرف داخل الزوايا إلى السياق الدنيوي في مناسبات الأعراس، كما قام بتحليل نظامها الموسيقي المقامي والإيقاعي. وفي نفس الإطار، قدّم الباحث زهير قوجة أطروحته حول الأقلية السمراء والتقاليد الاجتماعية الثقافية الإباضيّة في جزيرة جربة 13، اهتمّ فيها على وجه الخصوص بالممارسة الموسيقيّة التي تقدّمها فرق السّمْر في احتفالات الزفاف بعد أن تطرّق إلى مجمل الملابسات التاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة التي تحوم حول الفعل الموسيقي. وكشف البحث الاثنوموسيقولوجي المنجز، بدءً بجمع عناصر الرصيد الموسيقي ومعالجته تدوينا وتحليلا واستنطاقا، عن ذهنيّة الموسيقيين السمر وثراء الرصيد المتداول. وأبان البحث عن خصائص الآلات الموسيقيّة المعتمدة وعن مميّزات النظام المقامي والإيقاعي للرصيد وكشف درجة التعقيد فيها.

وضمن هذه الرؤية الجامعة للصوت وللإنسان الصانع فكرا واعتقادا ورؤى وأحاسيس، تنزّلت كتب المنظرين العرب الأوائل مثلما أشرنا سابقا، فأطّرت الممارسة الموسيقية ضمن مجمل العلوم المحيطة والمرتبطة بها. وتراوحت الرؤى من ربط الموسيقى بالأبراج والنجوم والطبائع والأخلاط مثلما جاء في كتاب ابن المنجّم والكندي وإخوان الصفا، وبين المشروع العلمي الذي سلكه الفارابي إذ كان يطمح –حسب تعبير محمود قطاط- “إلى إرساء علم جديد رافضا للنظرية الكوسمولوجية في الموسيقى التي شاعت وربما سادت بعد أن تبناها الكندي وإخوان الصفا من بعده” (قطاط، 2010، ص. 19). ولم يكن صفي الدين الأرموي نفسه بعيدا عن هذا التوجه الجامع حيث ربط الأدوار بالارتسامات النفسيّة المقابلة لها لدى المتلقي وخصّص في كتاب الأدوار الفصل الرابع عشر “في تأثير النغم” فيقول: “أعلم أن كل شدّ من الشدود له تأثير في النفس ملذّ إلا أنها مختلفة. فمنها ما يؤثر قوة وشجاعة وبسطا وهي ثلاثة عشاق ونوى وبوسليك لذلك فإنها تلائم طباع الترك والحبشة والزنج وسكان الجبال” (الأرموي، 1986).

وضمن هذه الرؤية الجامعة كذلك يطرح ج. ج. ناتيي مشروع “لمّ شمل” المنهاج الموسيقولوجي بعد أن تفتّت وتشظّى، فتعدّدت مشاربه بين الوجهات التاريخية والثقافية والتحليلية والمعرفيّة والاقتصادية وغيرها. وهو يقدّم المشروع بالقول: “ففي سياق المحاولة لمساعدة كل من أربكه الانشطار الحالي للموسيقولوجيا، بدءا بطلبتنا، تتنزّل رغبتنا في تعريف واقتراح بعض السبل لتصوّر الموسيقولوجيا كمنهاج موحّد نسمّيه هنا” الموسيقولوجيا الشاملة” ونعني بذلك منهاجا يتّخذ من كل الأنماط الموسيقيّة موضوعا له دون أي استبعاد، ويطوّر في الوقت نفسه، المفاهيم والقواعد والمناهج القابلة للتطبيق على جميع الأنماط الموسيقيّة” (NATTIEZ, 2015, p. 5).

وإذا ما عدنا للتساؤل الرئيسي المطروح يتبيّن لنا أن الاهتمام بالصوت – أي بالمادة الموسيقية- تدوينا وتحليلا واستنتاجا، إنما يندرج في جوهره ضمن الاهتمام بالإنسان الصانع في صيغتي الفرد والجمع. إن مجمل السمات البنائية الصوتيّة المرتبطة بالمدوّنة المدروسة من درجات السلّم العام والصيغ اللحنية والإيقاعية ونوعية الأجراس المعتمدة وغير ذلك، تعكس في الجوهر البنى الذهنيّة التي وقفت وراء تشكل المادة الصوتية وإنشائها وتداولها، وارتأتها سبيلا للتبليغ والتواصل والتعبير. ونحن من خلال الكشف عن خصوصيات المستوى الأول (الصوت)، إنما نمعن في تعميق المعرفة بإحدى جوانب المستوى الثاني (الإنسان فردا وجماعة). وانطلاقا من هذا التموقع، يصبح التحليل الموسيقولوجي مرحلة مهمّة من مراحل البحث في أنثروبولوجيا الموسيقى، وسيكتسب التحليل الموسيقولوجي حينئذ شرعية إنجازه، باعتباره إحدى مستويات البحث في عمق الإنسان.

2. موضوع أنثروبولوجيا الموسيقى

لطالما ارتبط موضوع الاثنوموسيقولوجيا بموسيقى الآخر المختلف عن الغرب، ولطالما اختار الباحثون التوجّه إلى مجال الآخر البعيد عن الغرب تماهيا مع التوجهات التي رسمتها الأنثروبولوجيا الثقافيّة في بدايات القرن العشرين وخاصة مع مالينوفسكي 14. فقد اعتُقد لفترات طويلة وفي سياق البحث عن أصول الموسيقي عموما وجذور الموسيقى الغربيّة بالخصوص، أن مصدرها يقبع في تلك المناطق النائية البعيدة عن تأثير التثاقف الغربي، شأنها في ذلك شأن مختلف الظواهر الثقافية والسلوكيّة والاجتماعيّة ضمن النظرة الأنثروبولوجيّة السائدة في بدايات القرن العشرين، وأن الكشف عنها والبحث في خصائصها ومميّزاتها سينبئنا حتما عن مسار التطوّر الذي لحق بها حتى استحالت على ما هي عليه في سائر المجتمعات الكبيرة “الراقية”، أو عن مسار انتشارها وتوزّعها بين ثقافات محليّة مجاورة أو بعيدة (وفقا للخلفيّة التطوّريّة أو الانتشارية التي انطلق منها الباحث). وارتباطا بالتحوّلات التي عرفها المنهج الأنثروبولوجي عموما في نظرته للآخر وتخلّصه أساسا من الرؤية الاثنومركزية التي وسمت مراحله الأولى، غيّر الحقل الاثنوموسيقولوجيّ بدوره نظرته إلى الموسيقى المبحوث فيها من جهة، واتّسع اهتمامه بأنماط وأصناف موسيقيّة متعدّدة، فسُدّت الهوّة القيميّة الاعتباطيّة التي وُضعت تدريجيّا بين ما بات يُعرف بالموسيقى “العالمة”، الغربيّة أساسا، وبين سائر موسيقات العالم، وباتت كل الموسيقات في كل مناطق الأرض جديرة بالاحترام والاهتمام مهما كانت درجة “بساطتها” أو “تعقيدها”. ويؤكّد بلاكينغ هذا الموقف في بداية كتابه معتبرا “أن كل موسيقى، سواء من الجانب البنائيّ أو الوظيفيّ، هي شعبيّة بالضرورة، وأن من يمارسون الموسيقى الكلاسيكية ليسوا أكثر إحساسا أو ذكاء من أولئك الشعبيين” (BLACKING, p. 9). لكن وبالرغم من ذلك، ظل التوجّه إلى الفعل الموسيقي غير الغربي مسيطرا على طبيعة موضوع البحث الاثنوموسيقولوجي لعقود لاحقة، مسايرا ما رسمته الأكاديميات الغربية منذ بدايات المبحث، وتواصل السعي لاستكشاف مناطق جغرافيّة معزولة لم تطلها أقدام الباحثين بعد، تتميّز أساسا بالخاصية الشفويّة في تناقل التراث الموسيقي وتواتره، متمسّكة بإرثها الثقافي عموما. وعلى الرغم من انخراط عدد غير قليل من الطلبة والباحثين من خارج البلدان الغربيّة في مسار البحث الاثنوموسيقولوجي داخل الجامعات الغربيّة أساسا، فإن الآخر الموسيقي لم يتغيّر في جوهره ولم يشمل رصيد الموسيقى الغربيّة بمختلف تفرّعاته مثلا، وظلّت الموسيقى ذات التقاليد الشفوّية الموضوع الأساسيّ للمبحث. غير أن موضوع البحث الاثنوموسقولوجي هذا سيُعدّل نسبيّا مع استقرار الرؤى الفكرية والفلسفيّة ما بعد الحداثيّة، لتتحوّل بؤرة الاهتمام جزئيّا نحو الداخل المعقّد للمجتمعات الكبرى، وتعالج مسائل معاصرة ومرتبطة بالتغيّرات الكونيّة فكرا واجتماعا وثقافة، وتطالب بتوجيه الاهتمام الاثنوموسيقولوجي إلى الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة التي ظلّت خلال الفترات السابقة “مترفّعة” عن الحقل 15. ويؤكد الباحث سمير بشة هذا الرأي قائلا: “لا يتعيّن الاختصاص الاثنوموسيقولوجي بدراسة المجموعات والأقليات، بل ينطبق على كلّ منطقة جغرافية في العالم (…) أريد أن أذكّر في هذا الشأن بأن المقاربة الإثنوموسيقولوجية تتمثّل في نظرة الباحث إلى موضوع بحثه وليس إلى منطقة جغرافيّة ما، وعليه تكون المناطق المتيسّرة والمتمدّنة عمرانيّا واجتماعيّا وثقافيّا معنيّة هي الأخرى بالدراسة الاثنوموسيقولوجيّة” (بشّة، 2015، ص 13).

ولئن اعتُبر مجمل الرصيد الموسيقي التونسي موضوعا للمبحث الاثنوموسيقولوجي وفق الرؤية الغربيّة وتوجّهاتها العامّة باعتباره آخرا موسيقيّا ذي تقاليد شفويّة وغير مُنظّر فيه، أو شبه ذلك، فقد قسّم التوجّه البحثي التونسي الرصيد ذاته إلى صنفين: رصيد المالوف والإنتاج الموسيقي الحديث والمعاصر داخل النطاق الحضري من جهة، والتراث الموسيقي الصوفي وكذلك المُتداول في مناطق ريفيّة وقرويّة متاخمة للمناطق الحضريّة، أو بعيدة عنها جغرافيّا، والذي بقي طويلا خارج دائرة الاهتمام التعليمي والعلمي،من جهة ثانية. وتماهى التصنيف السابق مع التوجّه الغربي في المبحث ذاته بين موسيقى كلاسيكية (بمختلف حقبها) من جهة ،وموسيقى ريفيّة “الشعبيّة” أو “الفلكلورية” من جهة ثانية.

3. العمل الميداني عصب المنهج

“بما أنّ أحد خصائص هذا المبحث [الاثنوموسيقولوجيا] دراسة الموسيقى دون فصلها عن سياقها الثقافي الشامل والذي تُعدّ أحد عناصره، يترتّب عن ذلك إلزاما التوجّه إلى الميدان في أولى الخطوات لمعاينتها في بيئتها الأصليّة” (BRANDILY, 1989, p 1). غير أن أولى الخطوات هذه لا تخلو من الصعوبات والإشكالات ارتباطا بالأساس في علاقة الباحث بموضوع بحثه وعلاقته بالميدان. ولعلّ ما يهمّ الخصوصية التونسيّة في التعاطي مع الموضوع الموسيقي عموما أنّ الباحث ذاتٌ وموضوعٌ في نفس الوقت، إن كان من السكان الأصليين لميدان البحث أو غريبا عنه نسبيّا، باعتبار أن جانبا هامّا من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعيّة متشابه في مختلف جهات البلاد. وكون الباحث قد تعوّد على رؤية الأحداث والظواهر الثقافيّة عموما والموسيقيّة بالتحديد حتّى باتت أمرا مألوفا لديه ومحاطة بغلاف “المسلّمات”، فإن ذلك سيؤثّر حتما على نتائج المعاينة ورصد الأحداث الموسيقية وما يحوم حولها من أحداث مختلفة اجتماعية كانت أو ثقافية أو عقائدية أو اقتصادية خصوصا للمبتدئ من الطلبة. وإذا ما أضحى الباحث مبحوثا فيه والأنا آخرا، تداخلت المقاربة الداخلية بالخارجية، واستحال التجرّد والحياد منالا صعب التحقيق. لذلك يبرز التعوّد على أخذ المسافة من كل الأفكار المسبقة والفصل بين مكتسبات الباحث وموضوع بحثه أحد أهمّ استحقاقات العمل الميداني. وفي هذا السياق، يؤكّد الباحث أحمد خواجة في إحدى محاضراته أنّ البحث الميداني حرب مع الأفكار المسلَّم بها، وهي حرب مع الذات والموضوع 16.

من جهة ثانية يخلق انتماء الباحث لمجال بحثه الاجتماعي الثقافي وضعيّة اجتذاب بين طرفي الذات والموضوع. ففي حين يقتضي البحث العلمي حيادا تامّا أمام مجمل العناصر الثقافيّة وتجنّبا لتبنّي أحكام قيميّة، إن كانت سلبيّة أم إيجابيّة، تدفع وضعيّة الانتماء في المقابل نحو الانخراط في التفاعلات الداخليّة بالدفع نحو استقرار الثقافة أو تغييرها ضمن حراك المجموعة عامّة. فعلى سبيل المثال، تبدو بعض تقاليد العرس التقليدي “رجعيّة” في فكر الباحث، متناقضة مع قناعاته الإيديولوجية مختلفة مع تطلّعاته الحداثيّة (في طبيعة العلاقة بين الجنسين مثلا أو في جانب من المعتقدات أو غير ذلك)، وهي تستوجب العمل من أجل تخطّيها وتغييرها ضمن سياق الحراك الدائم الذي تشهده كل ثقافة، لكن استحقاقات البحث العلمي يفرض عليه أخذ مسافة من هذا الحراك بعدم صبغ أفكاره على سيرورتها بالتغاضي عنها وبتغييبها من دائرة الاهتمام، بل بتناولها في تفاعلاتها وتأثيراتها والقوى الواقفة وراءها أو الرافضة لتداولها، دون الحكم عليها. وإذا كانت المنزلة الثانية تبعد الباحث عن مجموعته الفاعلة في صيرورة الثقافة وسيرورتها، فإنّ الأولى تبعده عن صفته العلميّة وعن المجموعة العلميّة التي أراد أن ينتمي إليها من خلال إنجاز بحثه.

ويشترط العمل الميداني في جانب آخر التعوّد على شموليّة النظر للحدث الموسيقي بالسعي لرصد مختلف الملابسات المحيطة به وعدم الاقتصار على تسجيل المستوى الصوتيّ فيه. فمهما بلغ الأخير من جودة عالية لا يخبر بأي شكل عن الكنه الحقيقي للفعل الموسيقي في علاقته بفاعليه من الجنسين ومكانتهم الاجتماعيّة – إن كانت سلبيّة أم إيجابيّة- وبطبيعة المتقبّلين له، وبتأثيراته النفسيّة والعاطفيّة عليهم، والظروف الخاصة بعرضه وتموضعه في سياق الحياة العامة والوظائف التي يضطلع بها. وقد تتعرّض المادة الصوتيّة-الموسيقيّة كذلك إلى عمليّة عزل مزدوجة تضيف إلى ما سبق فصله عن باقي تمظهرات قنوات التعبير الفنيّة المتداولة في الجهة، من رقص وشعر وتشخيص وأدب، وعدم الانتباه إلى التقاطعات التي تحدثها مجمل الأنساق التعبيرية، وفق مقاربة جامعة تنظر إلى المكوّنات الفنيّة ككلّ واحد متناغم في بنائه ووظيفته.

وفي المستوى الموسيقي الصرف، بقدر ما يعدّ انتماء الباحث لميدان البحث عاملا إيجابيّا يساعده في جمع المدوّنة الموسيقية بحكم إلمامه بمختلف أنماطها والسياقات العامّة لعرضها ومنفّذيها من كلا الجنسين، والتي قد لا تتوفّر في الباحث الغريب، بقدر ما تشكّل مكتسبات الباحث المعرفيّة التي تلقّاها في مدرّجات الجامعة مصدر صراع بين مادتها الموسيقية ونظرياتها الموسيقولوجية من جهة، وبين الواقع الميداني بكل تلويناته من جهة ثانية. وقد تتمظهر الرؤية الإثنومركزيّة خلال العمل الميداني لتحاول التدخّل في الحدث الموسيقي من أجل “تصحيح” ما بدا لها من “أخطاء” أو “هنّات”، إن كان في طريقة التنفيذ أو في تحديد العناصر الموسيقيّة المرصودة، من خلايا إيقاعية أو درجات صوتيّة أو حتّى التسميات المعتمدة في المجال-العيّنة. وقد يكون لهذا التسلّط نتائج مدمّرة على خصوصيات المادة الموسيقية بتحويل درجاتها وآلاتها والتسميات الأصليّة المتداولة من قبل.

4. أنثروبولوجيا الموسيقى في عصر ما بعد الحداثة

كان لا بدّ للفكر الأنثروبولوجي من أن يصطدم بحقائق الميدان وما أبان عن عصارة تجارب إنسانية متنوّعة ومتعدّدة لتفسير العالم وظواهره الطبيعيّة والسيطرة على قواه بقوّة المعتقد المحلّي وسلطته، رؤى تتناقض جوهريّا مع أسس الحداثة وفلسفتها التي وأدت المعتقد بتمظهراته المتعدّدة مقابل تقريظ العقل، ودفعت نحو مجتمع عقلاني يتخلّص فيه كل البشر من مختلف أشكال الخوف اللامعقولة، “وإبعاد مظاهر الاستبداد وكذلك العقبات المعطّلة للمعرفة” (ج. بورتوا و هـ. دسمات، 2005، ص. 29). وكان لا بدّ أن تفعل الصدمة فعلها في تغيير المسار الأنثروبولوجي وتعيد النظر في مختلف التقييمات القديمة الناظرة بعين التقليل إلى الآخر الثقافي. وفي السياق نفسه عرفت الاثنوموسيقولوجيا الصدمة ذاتها وناشدت تغيير الموقف من موسيقات الميادين المتعددة نحو الإيجابي، وبات السعي لاكتشاف ميادين جديدة لم تطأها أقدام الباحثين من قبل، مراما يصبو إليه الباحث الناشئ، والاجتهاد في الكشف عن تجارب موسيقية جديدة بآلاتها ونغماتها وإيقاعاتها وطرق تنفيذها ودورها في تأثيث مراحل الحياة، سبيلا لبلوغ عُلْو المراتب.

غير أن التحوّلات التي شهدها العالم خلال العقود القريبة الماضية، وما نتج عنها من تطوّرات هائلة في قنوات الاتصال السمعي البصري وتناقل المعرفة وتقريب الأفراد والمجموعات عبر فضاء كوني جامع، أثّرت على الموضوع الاثنوموسيقولوجي بتفاوت، ودفعت عددا من الباحثين إلى إعادة التساؤل حول مصير المبحث نفسه ودعت إلى تحين موضوعه ليتساوق مع فلسفة ما بعد الحداثة ويبرّر وجوده ضمن المسار الأكاديمي العام 17.

لقد بات واضحا للعين الملاحظة والناقدة مدى تأثير مختلف التغيّرات العولميّة في شكل الموسيقى ذات التقاليد الشفوية وفي مضمونها على حدّ سواء، لدرجة فقدانها تلك الصفة – صفة الشفويّة- التي تميّزت بها في مصنّفات الباحثين، واكتسبت بفضلها جدارة الاهتمام. وبانت نتائج التثاقف التي خضعت لها طوعا وإكراها، بأن أُخرجت من بيئتها الاجتماعيّة الثقافيّة الأصلية واقتيدت إلى عمق اقتصاد السوق وأُجبرت على تلبية اشتراطاته. وأدّت سلعنة الموسيقى التقليدية إلى تهجين متعدّد الأوجه طال الآلات الموسيقيّة وطرق تعديلها، والأشكال الإيقاعية ومضمون الكلمات ودرجات السلالم الموسيقيّة الأصليّة لتساوق مقتضيات الهرمنة. واستحال عدد من الأغاني التقليدية محملا أساسيّا وتيمات لوضع تراكيب لحنيّة متعدّدة المصادر فيما بات يعرف بالموسيقى “المهجّنة” أو “المختلطة” أو “المنصهرة”. كما طال التغيير الموسيقي نفسه جرّاء مغريات الربح المالي والنجومية، وأضحى محاطا بوكيل أعمال وتسويق وفريق تحضير. وتفطّنت شركات الإنتاج العالمية إلى تنامي اهتمام شرائح اجتماعية مختلفة بالأنماط الموسيقية الغريبة الوافدة من جهات العالم نتيجة البحث الأنثروبولوجي الميداني، ورأت فيه سبيلا للربح، فتهافتت على استقطاب موسيقيين من مختلف أنحاء العالم وتسجيلهم ونشر الدعاية اللازمة للنمط الجديد “موسيقى العالم” (world music) بغية بيع المنتج ذي “النكهة الغريبة” (exotique) مستفيدة من الفكر الداعي لربط جسور التواصل والحوار مع الآخر. وبدأت تطفو على سطح البحث إشكالات غير مسبوقة.

وحيال هذه التغيّرات المتزامنة مع الهجرات الثقافيّة المختلفة إلى عمق العواصم والمدن الكبيرة وتعدّد أوجه تفاعلها مع بعضها داخل المجال الحضري، وأمام تشكّل نواتات اجتماعية متنافرة على خلفيات عرقيّة وجنسيّة وطبقيّة، تحوّلت وجهة البحث الأنثروبولوجي الموسيقي نحو الداخل الحضري نفسه ولم يعد الميدان البعيد مقصدا ضروريا في نظر المتبنّين للطرح ما بعد الحداثي. وأعيدت الاثنوموسيقولجيا إلى موطنها (ethnomusicologie rapatriée) حسب تعبير “رامون بيلنسكي” (PELINSKI, 2007, p. 749)، لتدير ظهرها لموضوعها الأصلي الذي بات بعيدا عن دائرة الضوء، وتهتمّ بالإشكالات الجديدة سالفة الذكر.

ونحن نعتقد أن تحويل التوجّه في دفّة البحث الأنثروبولوجي مرتبط في جانب منه باستراتيجيات السياسيين وصنّاع القرار، أو هم مستفيدون منه بشكل قيّم على الأقل، ذلك أنّ البحث في مختلف الإشكالات المطروحة يقدّم رؤى متعدّدة لفهم آليات التنظيم والتفكير التي تميّز المجموعات الاجتماعيّة المتعدّدة داخل المدن الكبيرة مقصد المهاجرين وملاذهم، وتتوسّل طرقا متنوّعة لفضّ الخلافات التي ترتّبت عن تزايد أعدادها وتنشد سبلا للتواصل معها والفعل في تركيباتها الثقافيّة. وفي هذا الإطار يتنزّل الاهتمام بموسيقات المهمّشين والأقليات العرقية المتعايشة داخل الوسط الحضري من مهاجرين أفارقة وعرب (مغاربة ومشرقيين) وأسيويين وغير ذلك، أو بموسيقى المثليين أو الموسيقى النسويّة ضمن مجال الدراسات الجندريّة (gender studies).

خاتمة

سعينا من خلال العناصر التي تناولناها الوقوف عند أهم إشكالات المبحث الاثنوموسيقولوجي في علاقته بموضوع بحثه، بين التركيز على المادة الموسيقيّة في مستواها المحايث واستنطاقها من أجل الوصول إلى ضبط خصائصها واستخراج مقوّمات تراكبها، وبين اعتبارها إحدى التمظهرات الثقافيّة الواجب دراستها في سياقها قصد رصد الشبكة العلائقيّة التي ترسمها داخل النشاط الثقافيّ العام. ويرسم التباين خطا فاصلا بين التوجّه الموسيقولوجي المتشبّث بدراسة المادة الصوتية ذاتها ولذاتها، وبين التوجّه الأنثروبولوجي ذي الرؤية الأكثر شموليّة خصوصا بعد أن بات يهتمّ بمختلف موسيقات العالم على قدم المساواة.

ونحن نعتقد أن التوجّه نحو مزيد بلورة خط جامع يهتمّ بكلتا المقاربتين سيسهم بتعميق النظر في تناول المسألة الموسيقية باعتبار ما يوليه من أهميّة للتحليل الموسيقولوجيّ المعمّق بحثا عن مميّزات الفكر الإنشائي الذي ابتدع المادة الصوتية المرافقة للحدث الاجتماعي الثقافي وارتآها سبيلا للتواصل والتعبير، وهو ما يشّكل تميّز الباحث في أنثروبولوجيا الموسيقى عن غيره في الأنثروبولوجيا العامّة. بل نعتقد أن عمق هذا التوجه يكمن في اعتبار المستوى التحليلي عنصرا فرعيّا من المنهاج الأنثروبولوجي يفيد في تبيّن جوانب من البنى الذهنية للمجموعة المدروسة.

المراجع

    • الأرموي، صفي الدين عبد المؤمن، 1986: كتاب الأدوار في الموسيقى، تح. وشرح غطاس عبد الملك خشبة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ، 338 ص
    • بشة، سمير، 2015: «ما الموسيقولوجيا ؟» ، المركز التونسي للنشر الموسيقولوجي. https://ctupm.com/?p=371&lang=ar
    • بورتوا، جون بيار، دسمات، هوفيت، 2005: تربية ما بعد الحداثة، تر. نور الدين ساس، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
    • قريعة، الأسعد، الرسالة الشرفية في النسب التأليفية لصفي الدين الأرموي: تحقيق وشرح ، تونس، اصدارات النجمة الزهراء، 2008، 549 ص
    • قطاط، محمود، 1989: دور تونس في إرساء التراث الموسيقي المغربي-الأندلسي، مجلة الحياة الثقافية، ع. 51، تونس، ص. 56-82
    • قطاط، محمود، 2006: «الموسيقى في سياقاتها الاجتماعية والحضارية»، مجلة البحث الموسيقي، المجلد 5، ع. 1، عمان، ص. 9-25
    • قطاط، محمود، 2010: «الموسيقى في تفكير الفارابي، مجلة البحث الموسيقي»، المجلد 9، ع. 1، عمان، ص. 14-38
    • قطاط، محمود، 2013: «مكانة الموسيقى في المجتمع العربي من المقدس إلى الشيطاني»، مجلة البحث الموسيقي، المجلد 13، عمان، ص. 13-25
    • قوجة، محمد، 2016: المغاربية الموسيقية، تونس، وحدة البحث “الجماليات والفن والتناسق البيئي والبحث، المعهد العالي للفنون والحرف بقابس، جامعة قابس.
  • لابورت-تولرا، فيليب، فارنييه، جان-بيار، 2004: إثنولوجيا أنثروبولوجيا، تر. مصباح الصمد، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
    • AROM, Simha, 1982 : « Nouvelles perspectives dans la description des musiques de tradition orale », Revue de Musicologie, n° 68 (1/2), pp. 198-21
    • AROM, Simha, 1985 : Polyphonies et polyrythmies d’Afrique centrale. Structure et méthodologie, Paris, SELAF
    • AROM, Simha, 1999 : «Trois brèves remarques sur l’ethnomusicologie et une conclusion (commentaire) », Cahiers de musiques traditionnelles, Vol. 12, p. 173-174
    • AROM, Simha, KHALFA, Jean, 1998 : « Une raison en acte : Pensée formelle et systématique dans les sociétés de tradition orale », Revue de Musicologie, T. 84, N°. 1, p. 5-17
    • AUBERT, Laurent, 2001 : La musique de l’autre, Genève, Georg, Atelier d’ethnomusicologie
    • AUBERT, Laurent, 2012 : « Nouveaux objets nouveaux enjeux : Repenser l’ethnomusicologie », Musique et globalisation, dir. Jacques Bouët et Makis Solomos, Paris, L’Harmattan, p. 87-106
    • BLAKING, Jean, 1980 : Le sens musical, Paris, Minuit
    • BOREL, François, 1996 : « De l’anthropologie de la musique à l’ethnomusicologie visuelle : Entretient avec Hugo Zemp », Cahiers de musiques traditionnelles, Vol. 9, p. 289-304
    • BRANDILY, Monique, 1989 : ETHNOMUSICOLOGIE : Musiques et civilisations, Fascicule 4896 (Méthodes d’approche de l’ethnomusicologie), Paris, Clartes
    • CHENOWETH, Vida, 1996 : « The etic-emic distinction applied to music analysis », The tewenty-third LACUS forum, Birgham young university, p. 585-584
    • CLER, Jérôme, 2001 : « Le terrain et son interprétation, Quelques aspects de l’herméneutique en ethnomusicologie », Approches Herméneutiques de la Musique, dir. Jaques Viret avec la collaboration d’Erik Kocevar, Presse Universitaire de Strasbourg, , pp. 29-38
    • DURING, Jean, 1995 : Quelque chose se passe, le sens de la tradition dans l’Orient musical, Paris, Verdier
    • DUVELLE, Charles, 1996 : « Musique d’Afrique noire », Encyclopaedia Universalis, Vol. 15, dir. Hans Schweizer, Paris, Encyclopædia Universalis Editeur, p.940-945
    • FEKI, Soufiane, 2006 : Musicologie, Sémiologie ou ethnomusicologie, Quel cadre épistémologique, quelles méthodes pour l’analyse des musiques du maqâm, thèse de doctorat, Université de Paris IV- Sorbonne
    • FÜRNISS, Susanne, OLIVIER, Emmanuelle, 1997 : «Systématique musicale Pygmée et Bochiman : Deux conceptions africaines du contrepoint », Musurgia, Vol. 4, N° 3, p. 9-30
    • GIANNATTASIO, Francesco, 2007 : « Le concept de musique dans une perspective anthropologique et ethnomusicologique », Musiques- Une encyclopédie pour le XXIè siècle, dir. Jean-Jacques NATTIEZ, V. 5, Actes dud /Cité de la musique, p. 399-427
    • GOUJA, Zouhir, 1997 : Communauté noire et tradition socioculturelles Ibadhite de Jerba, thèse de doctorat en sociologie, Université Paris 8
    • GUETTAT, Mahmoud, « La musique sacrée dans le monde Arabo-Musulman », Musica E Liturgia Nella Cultura Mediterranea, Venezia, Leo S Olschki Editor, 1985, p. 157-166
    • GUIBAULT, Jocelyne, 2007 : « Mondialisation et localisme », Musiques- Une encyclopédie pour le XXIè siècle, dir. Jean
    • Jacques NATTIEZ V. 5, Actes dud /Cité de la musique, p. 313-336
    • J. HERSKOVITS, Melville, 1967 : Les Bases de l’Anthropologie culturelle, François Maspero Editeur
    • LORTAT-JACOB, Bernard, 1980 : Musique en fêtes au Haut-Atlas, Paris, Mouton
    • LORTAT-JACOB, Bernard, 1987 : L’improvisation dans les musiques de tradition orale, Paris, Selaf
    • MERRIAM, Alan P., 1964: The Anthropology of Music, Evanston, Northwestern University Press
    • MOLINO, Jean, 2007 : « Qu’est ce que l’oralité musicale ? » Musiques- Une encyclopédie pour le XXIè siècle, dir. Jean
    • Jacques NATTIEZ , V. 5, Actes Sud /Cité de la musique, p. 477-527
    • NATTIEZ, Jean-Jacques, 1996 : « Ethnomusicologie », Encyclopædia Universalis, Vol. 8, Pais, Encyclopædia Universalis Editeur, p. 1006-1010
    • NATTIEZ, Jean-Jacques, 2007 (1): « Eclatement ou unité de la musique ? », Musiques- Une encyclopédie pour le XXIè siècle, dir. Jean-Jacques NATTIEZ, V. 5, Actes Sud /Cité de la musique, p. 17-32
    • NATTIEZ, Jean-Jacques, 2007 (2): «Ethnomusicologie», Musiques- Une encyclopédie pour le XXIè siècle, dir. Jean-Jacques NATTIEZ, V. 2, Actes Sud /Cité de la musique, p. 721-739
    • NATTIEZ, Jean-Jacques, 2015 : «Musicologie historique, ethnomusicologie, analyse : Une musicologie générale est-elle possible ?», CTUPM, https://ctupm.com/?p=544&lang=fr_FR
    • NETTL, Bruno, 2004 : « Une anthropologie de la musique classique : La culture comme “autre” », L’Homme, Editions de l’EHESS, N°. 171 /172 , p. 333-351
    • PELINSKI, Ramôn, 2007 : « L’ethnomusicologie à l’ère postmoderne », Musiques- Une encyclopédie pour le XXIè siècle, dir. Jean-Jacques NATTIEZ, V. 2, Actes Sud /Cité de la musique, p. 740-765
    • ROUGET, Gilbert, 1980: La musique et la transe, Paris, Gallimard
    • RUWET, Nicolas, 1966 : « Méthodes d’analyse en musicologie », Revue Belge de Musicologie / Belgisch Tijdschrift voor Muziekwetenschap, Vol. 20, n°1/4, Société Belge de Musicologie, p. 65-90,
    • SCHULTE-TENCKHOFF, Isabelle, 1999 : « Structuralisme ou culturalisme? Entretien avec Jean Jacques Nattiez », Cahiers de musiques traditionnelles, Vol. 12, p. 153-172
    • SIALA, Mourad, 1994 : La Hadra de Sfax : Rite soufi et musique de fête, Thèse de doctorat en Ethnologie, université Paris X.
Publications

محمد المصمودي. أستاذ مساعد، جامعة صفاقس، المعهد العالي للموسيقى

الكاتب: Mohamed Masmoudi

محمد المصمودي. أستاذ مساعد، جامعة صفاقس، المعهد العالي للموسيقى