الكاتب : أنيس المؤدب | أستاذ مساعد للتعليم العالي ومدير قسم العلوم الموسيقيّة بالمعهد العالي للموسيقى، جامعة تونس
خلاصة :
يبحث المقال عن الأسباب التي تؤدي إلى اندثار بعض الآلات الموسيقية عبر التاريخ، وذلك من خلال دراسة آلة الڨنبري في تونس والتي اختفت من المشهد الموسيقيى في الربع الأول من القرن العشرين، رغم أنها كانت تعدُّ -استنادا على جملة من المعطيات الأثرية والمصادر المكتوبة والوثائق الايقنوغرافية- من أكثر الآلات الوترية رواجا بتونس طيلة فترة تناهز ثلاثة آلاف سنة.
الخلاصة بالفرنسية | الخلاصة بالانقليزية
-
- لذكر مصدر المقال : المؤدب، أنيس، 2016 : « الڨنبري تلك الآلة التي ماتت في تونس مرّتين »، المركز التونسي للنشر الموسيقولوجي، https://ctupm.com/ar/the-guinbri-twice-disappeared-instrument-in-tunisia
- حمّل المقال في صيغة PDF.
المقدمة
تقبع في إحدى أركان واجهات متحف الآلات الموسيقية بمركز الموسيقى العربية المتوسطية –النجمة الزهراء- بتونس، آلة وترية صغيرة الحجم من فصيلة العيدان طولها 60 سنتيمترا، لها عنق خشبي اسطواني تخترقه ملاويين يُربط بهما وتران يمتدان ويمران فوق فرس هرمي أسود مثبت على رقعة من الجلد مشدودة بالغراء على صندوق مصوت اتخذ من ترس سلحفاة أرضي (لوحة عدد 1). تثير الوضعية السينوغرافية المتحفية للآلة عدة استفهامات، فقد احتلت الآلة موقعا ضمن وتريات معفوقة تحمل تسمية ڨنبري دون أن يخصص لها رقم يرشد لتسميتها بالقائمة التوضيحية مما يولّد إرباكا في الاستدلال عليها لاسيما أن بعض العاملين بالمتحف يصطلحون عليها فيما بينهم بـ”فَكْرُونْ” -أي سلحفاة – رغم وجود آلة محاذية لها تحمل ذات الاسم ولكنها مختلفة معها مرفولوجيا1، وبالتالي فإن التسمية تتأرجح ما بين ڨُنْبري و”فَكْرُونْ” ويمكن إضافة ڨنِيبري إذا ما استخدمنا التسمية المعتمدة للآلة في العديد من المراجع الأجنبية.
إضافة للالتباس الذي تحدثه التسمية، فإن تواجد الآلة ضمن مجموعة من الوتريات الخاصة ببعض سود تونس، تحيل في ذهنية الزائر على كونها تنتمي لرصيدهم الأرغنولوجي والمستعمل عندهم لأداء موسيقات طقوسية وعلاجية ذات خصوصية لحنية-إيقاعية ينفردون بها، درج على تسميتها بالصطنبالي.
كما لا تقف الإرباكات عند ذلك الحد، إذ تزداد المسألة تعقيدا وذلك بعد أن تبين لنا عدم أصليّة الآلة المعروضة وبأنها لا تعدو أن تكون مجرد نسخة مقلدة لآلة يمتلكها أحد سكان توزر زعم أنه تحصل عليها من النيجر2. ودون التوغل في هذه التفاصيل، فإن المحصلة هي الإقرار بوجود فراغ معرفي يخص هذه الآلة وبأنها -وعلى الرغم من تمتعها بشعبية كبيرة بتونس فيما مضى كما سنبين لاحقا- فقد اندثرت لا فقط من ناحية وجودها المادي والذي أشار له الموسيقي أحمد عاشور منذ سبعينيات القرن العشرين (عاشور، 1978) بل كذلك من ناحية نسيانها وانتفاء ذكراها إلى حد أن منشئيّ متحف الآلات الموسيقية بالنجمة الزهراء، في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لم يدرجوها ضمن الفهرس الذي خصصوه للتعريف ببقية الآلات الموسيقية المعروضة بالمتحف3، وربما يعود ذلك إلى عدم توفر المعلومات الكافية عنها أو لتضارب المعطيات حولها.
وفي ضوء جميع هذه القضايا المتعلقة بآلة الڨنبري فإن الإشكالية الأساسية المطروحة في هذا المقال هو البحث عن أسباب انقراضها في إطار محاولة فهم ظاهرة اندثار بعض الآلات الموسيقية عبر التاريخ. وللإحاطة بالموضوع سوف ننطلق بالتعريف بالآلة والتنقيب عن أصلها والتّحري عن مدى رواجها في تونس ومن ثمة تقصي أسباب اختفائها من المشهد الموسيقي التونسي.
1. تعريف الآلة
تُماثل الآلة محل الدرس من حيث الشكل والمواد المكونة لها والحجم، آلات أصلية معروضة بعدة متاحف أوروبية، تم اقتناؤها من البلدان المغاربية ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومن ضمنها عينتين من تونس (لوحة عدد 2 و3 )، ويستدل عليها بـ”ڨِنبري” / Guinbri وهو مصطلح استعمله “فكتور شارل ماهيون” عند جرده للآلات الموسيقية بمتحف المعهد الملكي ببروكسال وتصنيفه لها خلال ثمانينات القرن التاسع عشر (Mahillon, 1893, p.423-424).
لوحة عدد 1 : صورة من الجهتين الأمامية والخلفية للآلة المعروضة بمتحف الآلات الموسيقية بالنجمة الزهراء4
لوحة عدد 2 : صورة لآلة ڨنبري من تونس محفوظة بمتحف فيلارموني بباريس كانت ضمن مجموعة الموسيقي انطونان لافاج الذي استقر بتونس من نهاية القرن 19 إلى عشرينيات القرن 20. طولها 40 سنتيمتر وصنع صندوقها من صدفة بحرية5.
لوحة عدد 3 : صورة لآلة ڨنبري تم اقتناؤها من تونس سنة 1903 محفوظة بمتحف الآلات الموسيقية ببرلين. طولها 51.8 سنتيمترا وصندوقها من ترس سلحفاة6.
لا تتوقف تسمية ڨنبري على نوع مميز من الآلات بل هي تعميم لمجموعة كبيرة من الوتريات المعفوقة المتداولة بشمال إفريقيا وصحرائها والمناطق المحيطة بها من الجنوب وفي اتجاه الغرب. ولا ينسب هذا التعميم للغربيين فحسب بل إن سكان المغرب الأقصى إلى حد الآن يعرّفون آلة الهَجْهُوجْ وآلة لُوتَرْ وآلة السُوِيسِنْ بكونها ڨنبري (Aydoun, 2009, p. 30-31)، مما يفيد أن هذه التسمية تطلق عموما على صنف من الوتريات يصطلح عليه أرغنولوجيا بالأعواد طويلة العنق (Dournon, 2005, p. 855)، وهي تشترك في جملة من العناصر؛ أهمها انفصال العنق عن الصندوق المصوت واختراقه له اختراقا تاما أو جزئيا، إضافة إلى تكوّن الصدر أو محمل التوافقات من الجلد وأن تمر الأوتار وجوبا على فرس. وبالتالي فلا غرابة أن يتم إطلاق تسمية ڨنبري على العديد من الأعواد الطويلة العنق سواء تلك المستعملة من قبل سكان شمال إفريقيا من المغاربة7 أو لدى المجموعات السوداء التي تعيش بينها والتي تعتمدها في أرصدتها الموسيقية المخصوصة، بيد أن وجود اختلافات بين شكل الڨنابر –جمع ڨنبري- المستعملة لكل منهما جعل العديد ممن تطرقوا إليه يشيرون لتلك الفوارق (Charry, 1996, p. 12) مؤكدين على انتماء ذوات الصندوق الصوتي الصغير إلى المغاربة بدء بكتابات الباحث الموسيقي “كريستيانوفيتش” الذي عاينها في الجزائر سنة 1862 وذكر أنها أهم آلة موسيقية تلقى إقبالا منقطع النظير عند العرب هناك، وقد أوردها بتسمية ڨنِيبري / Gunibry ووصفها بكونها من الخشب ومحمل توافقاتها من جلد خروف وصندوقها المصوت غالبا ما يصنع من ترس سلحفاة وأنها تحمل وترين من الأمعاء (Christianowitsch, 1868, p. 31)، كما لم يكتف بما قدمه من معلومات بل وضّحها في مؤلفته من خلال رسم (لوحة عدد 4).
لوحة عدد 4 : رسم لآلة القنيبري (Christianowitsch, 1868, fig. 4).
ويبدو أن مصطلح ڨنيبري الذي استعمله “كريستيانوفيتش” قد استعاره أغلب الباحثين الذين تلوه للدلالة على الڨنبري المتداول لدى المغاربة على غرار موسوعة “فيتيس” (Fétis, 1869, p. 127) وفهرس مجموعة الآلات الموسيقية بمتحف ساوث كينزنغتون البريطاني لـ”كارل انجل” (Engel, 1874, p. 306-307) وفهرس متحف معهد الموسيقى بباريس لـ”غوستاف شوكا” (Chouquet, 1884, p. 220) وقاموس الآلات الموسيقية لـ”ألبار جاكو” (Jacquot, 1886, p. 104).
وجب انتظار العقدين الأولين من القرن العشرين لتتضح المسألة مع الباحث “جول رواني” إذ صرح أنه : ” رغم اطلاق تسمية ڨنبري في إفريقيا على مجموعة تكاد تكون غير محددة من آلات ذوات العنق وتجس أوتارها باليد […]، فإنه من الممكن التمييز بين نوعين؛ فالمسمى ڨَنيبري هو المستعمل في الشمال وأما الڨُنبري فهو القادم من الجنوب وأساسا من السودان والذي نجده رائجا في المدن المحاذية للصحراء بل وأيضا في المدن الساحلية وحيثما تتواجد مستوطنات من السود“. ويضيف “جول رواني” في وصفه للڨنيبري “هو قيثارة صغيرة لها عنق طويل ووتران. ويمكن أن يتشكل صندوقها من مواد متنوعة كأن تكون ترس سلحفاة أو نصف يقطينة أو نصف عمود من الخيزران أو نصف جوزة هند وغيرها. ويغطى بجلد ماعز وتجعل فيه فتحات في شكل ثقب صغيرة“(Rouanet, 1922, p. 2929).
ويتوافق هذا التمييز مع ما توصل إليه “هنري جورج فارمر ” في مقال خصصه لدارسة الڨنابر صدر سنة 1928، فقد أكّد بعد استناده على جملة من المراجع اللغوية أن “الڨنبري هو الآلة الأكثر استعمالا لدى الزنوج [السود]، في حين يستخدم العرب والمغاربة نموذجا أصغر : الڨنيبري” (Farmer, 1928, p. 29)8.
تبعا لذلك فإن مفردة ڨنيبري التي نقلها “كريستيانوفيتش” على ما يبدو من اللهجة الجزائرية، والتي لا تعدو إلا أن تكون سوى تصغيرا لڨنبري، هي الأقرب منطقيا للدلالة على ذلك الصنف من الڨنابر الصغيرة الخاصة بالمغاربة9، غير أنه لا يوجد لها مقابل في اللهجة التونسية إذ تؤكد جل المعطيات أن التسمية الوحيدة المتداولة هي ڨنبري أو ڨمبري، وقد أشار لذلك الصادق الرزقي في بداية القرن العشرين حين تحدث عن الآلات الموسيقية التونسية فذكر أن : “القمبري نوعان –نوع اشتهر استعماله عند جالية برابرة المغرب الأقصى، صغير الحجم، بوترين، ونوع كبير الحجم بوترين أيضا يستعمله السودانيون [يقصد سود تونس] في مدائحهم وأغانيهم” (الرزقي، 1967، ص. 58). يبدو أنّه إزاء تواتر التسمية الوحيدة قد تم استنباط طريقة للتمييز بين الڨنبريين وهي إضافة نعت “كبير” لڨنبري السود وهو ما نجده على سبيل المثال في وثائق اقتناء بعض الآلات الموسيقية من تونس لفائدة المتحف الملكي ببرلين سنة 190310.
اعتمادا على أشكال الڨنابر التونسية المحفوظة بالمتاحف الأوروبية، وعلى الوصف المدقق الذي قدّمه “فارمر” لڨنبري من تونس على ملكه الشخصي(Farmer, 1928, p. 33) إلى جانب بعض الصور الفوتوغرافية للآلة، التي التقطت في بداية القرن العشرين، فإن الڨنبري يتكون من ثلاثة عناصر أساسية وهي المقبض والصندوق المصوت والصدر الجلدي.
يتراوح طول المقبض ما بين 40 و60 سنتيمترا ويكون في شكل عصا اسطوانية تقلم ويُرقق آخرها من جهة مرورها فوق فتحة الصندوق المصوت وتثبت مع هذا الأخير برقاق من الجلد عن طريق الغراء ليغطي كامل الفتحة ويوظف كصدر الآلة أو بما يصطلح عليه أرغنولوجيا بمحمل التوافقات، ويحتوي ذلك الرقاق الجلدي على فتحات صغيرة تكون متناظرة.
ويكون للصندوق المصوت في الغالب من ترس سلحفاة أرضي صغير أو من صدفة بحرية من الحجم الكبير أو من خشبة محفورة إلا أنها تتخذ شكلا يحاكي ترس السلحفاة أو يقترب منه، مما يؤكد على البعد الطوطمي للڨنبري. وتحتوي الآلة على وترين من الأمعاء أو من الخيوط النباتية ويشدان في أعلى المقبض بواسطة ملاويين ويمران على فرس ويربطان في الطرف النهائي للعنق.
تتماثل أشكال العينات التونسية مع مثيلاتها الجزائرية إلا أن الأخيرة تطغى عليها الزخارف الملونة ذات الأشكال الهندسية التي تجعلها بمثابة قطعة فنية. غير أن كلا من الڨنابر التونسية والجزائرية يختلفان عن تلك المستعملة في المغرب الأقصى في طريقة تركيب العنق، إذ يخترق العنق كامل الصندوق بالنسبة للعينات التونسية والجزائرية بينما يخترقه جزئيا في أغلب العينات المغربية وينحت في شكل شوكة ثلاثية الأسنان تربط بها الأوتار(لوحة عدد 5 و6 )، وهي طريقة تتصف بها الأعواد المستعملة في الجزء الغربي من إفريقيا (Baroin, 2011). ويبدو أن وجود اختلافات بين ڨنابر كل من البلدان المغاربية يثبت تميزها عن بعضها البعض لا من الناحية المرفولوجية فقط بل ربما أيضا من الناحية الدلالية الرمزية والرصيد الموسيقي المؤدى.
لوحة عدد 5 : رسم توضيحي لكيفية اختراق العنق للصندوق المصوت اختراقا تاما.
لوحة عدد 6 : رسم توضيحي لكيفية اختراق العنق للصندوق المصوت اختراقا جزئيا.
يتضح مما تقدم أن الآلة المعروضة بمتحف النجمة الزهراء تحيل على الڨنبري الذي كان متداولا بتونس والذي كان مستعملا في أغراض مختلفة عن تلك التي لها علاقة بالصطنبالي والممارسات التي تستلهم هويتها من مرجعيات ثقافات جنوب الصحراء. وتبقى تسميته بـ”فكرون” عند البعض هو مجرد استدلال لصندوقها المصوت الذي غالبا ما يصنع من ترس سلحفاة وذلك في ظل النسيان الذي حف بالآلة. وهو ما يقود للسؤال عن حقيقة تجذر تلك الآلة في تونس وهل تستحق فعلا أن تعد عنصرا تراثيا هاما إلى حدّ يسمح بعرض نموذج منسوخ لها بالمتحف؟
2. أصول آلة الڨنبري
تتجه أغلب الدراسات إلى الاعتقاد أن الأعواد ذات العنق الطويل والتي يبوب الڨنبري من ضمنها، هي أقدم الأنواع المعروفة لعائلة الأعواد، مستندة في ذلك إلى شواهد أثرية، عثر عليها ببلاد الرافدين ترقى إلى النصف الثاني من الألفية الثالثة قبل الميلاد وتشخّص عازفي عود ذي عنق طويل وله صندوق مصوت صغير (رشيد، 1970، ص. 88؛ قطاط، 2006، ص. 20 ). كما تم الكشف في مصر عن أقدم أدلة عينية تتمثل في آلتي عود أصليتين تعودان إلى فترة الأسرة الفرعونية الثامنة عشر والتي حكمت ما بين 1320-1550 قبل الميلاد، إحداهما ذات صندوق مصوت من ترس سلحفاة والثانية لها صندوق خشبي بيضاوي الشكل (لوحة عدد 7). وتفيدنا العينتين بأنه يشدُّ على فتحة الصندوق رقاق من الجلد ويخترقه عموديا عنق خشبي اسطواني في عدة مواضع ليبرز في مستوى نهاية الصندوق حيث يثبّت به فرس متعامد تمر عليه الأوتار وتربط في آخر طرف العنق، بينما توثق الأوتار في الجهة العليا للعنق لا عن طريق ملاوي وإنما بسيور من الجلد (Hickmann, 1949, p.159-162).
لوحة عدد 7 : أعواد مصرية-فرعونية من ذوات العنق الطويل، محفوظة بمتحف القاهرة (Hickmann, 1949, pl. XCVII, XCIX)
تبلورت من خلال الشواهد الأثرية فرضية -صارت بمثابة مسلمة- تجعل من منطقة الشرق الأوسط موطن نشأة العود ومنها انتشر ليعم العديد من الأصقاع عارفا عبر تنقلاته الجغرافية وصيرورته التاريخية عدة تغيرات طرأت على شكله وطريقة صياغته وعزفه. وللإشارة فإن بعض الباحثين العرب قد استماتوا في الدفاع عن الأصول الأكادية السامية للعود محيلين بذلك ضمنيا على الرأي القائل بأن العرب -باعتبارهم شعوبا سامية- هم الورثة الشرعيون لفكرة ذلك الابتكار الذي اعتمدوه كآلة موسيقية مرجعية خلال فترة ازدهار الحضارة العربية الاسلامية وأنهم عملوا على ترويجه بطرق مباشرة وغير مباشرة بكل من آسيا وإفريقيا وأوروبا حيث تفرع إلى عدة أجناس. بل ولم يتوان بعضهم عن التصريح بأن : “أول وأقدم ظهور للعود في العالم كان في العراق فهو عراقي ومنه انتقل إلى أقطار أخرى في فترات لاحقة“ (رشيد، 1975، ص. 66). ويمكن تفهم ذلك الموقف “المغالي” والذي جاء كردّ فعل ضد حملات مقصية لمساهمات العرب في بناء الحضارة الإنسانية أو مقزمة لإضافاتها في ميادين عدة ومنها الموسيقى، إلا أنه شأنه شأن الآراء المضادة له متضمّخ بايدولوجيا القوميات ولا يعكس واقعا علميا خالصا، فهو وبرغم استناده إلى معطيات أثرية لا يستطيع إلا أن يثبت عمليا أن أقدم التشخيصات الإيقنوغرافية للعود التي تم العثور عليها إلى حدود فترة تشكل الموقف كانت ببلاد الرافدين. وهو ما يفترض تنسيب المسألة في انتظار ما ستسفر عنه المباحث الأثرية مستقبلا. كما أنه وبافتراض عدم العثور على شواهد أقدم للآلة في مناطق أخرى فذلك لا يعني صحة النظرية، إذ أن ابتكار الآلات الموسيقية واستعمالها في العصور القديمة قد سبق عملية تشخيصها على غرار اللغات المنطوقة التي تسبق الكتابة بل إن أغلب اللغات لم تعرف الكتابة إلى حد وقتنا الحالي.
ودون الخوض في هذا الموضوع فإن البحث عن أصل العود في القارة الإفريقية لا يزال محل نقاش تتنازعه تيارات بعضها رأت أنه ذو أصول مصرية قديمة (Blench, 1984, p. 169-171 Hickmann, 1947 ; ) وبعضها الآخر شكك في تلك الفرضية بدعوى أن الوجود المكثف للعود ذي العنق الطويل في إفريقيا حاليا يقع على رقعة تمتد من بحيرة التشاد في اتجاه السواحل الغربية وهي منطقة بعيدة عن ثقافات المجموعات المحاذية للنيل وفي المقابل فإن هذه الأخيرة يندر فيها وجود ذلك الصنف من الأعواد. كما أن مورفولوجية النماذج المصرية القديمة وطريقة اختراق العنق للوجه المجلد في أكثر من موضع بقي خصوصية مصرية ولم يعثر لها على مثيل في بقية النماذج الإفريقية (Charry, 1996, p. 16-20).
وبعيدا عن كل تلك الفرضيات المطروحة، فإن العود ذا العنق الطويل يبدو متأصلا لدى السكان الأصليين لشمال إفريقيا منذ فترات قديمة ترقى إلى العصر الحجري الحديث، إذ تم الكشف خلال العقود الأخيرة بين الرسومات الجدارية لكهوف منطقتي طاسيلي نعاجر في الجنوب الشرقي للجزائر وأكاكوس في الجنوب الغربي لليبيا عن ثلاث تشخيصات لعازفي أعواد طويلة العنق في وضعيات مختلفة (Baroin, 2011)، وتؤرخ تلك الرسومات (لوحة عدد 8) حسب دراسات أولية بنهاية الألفية الثانية قبل الميلاد وهو الزمن الذي اكتسحت فيه مجموعات قدمت من شمال إفريقيا -تعرف بقدماء الأمازيغ-المنطقة التي كانت خصبة قبل أن تتحول إلى صحراء قاحلة (Le Quellec, 2010).
لوحة عدد 8 : رسومات جدارية بالصحراء الكبرى تعود إلى 1100 قبل الميلاد وتشخص عازفي أعواد طويلة العنق (Baroin, 2011 ).
ويبدو أن تلك النوعية من الأعواد قد انصهرت في ثقافة السكان المحليين لشمال إفريقيا وصارت إحدى مميزاتهم التي تواصلت خلال الفترات التاريخية المتعاقبة دون أن يمنعهم تبني ترسانة من الآلات الموسيقية قدمت مع الفينيقيين ثم مع الرومان في التاريخ القديم أن يبقوا لذلك العود مكانته وهو ما تؤكده بعض الوثائق الأثرية على غرار لوحة من الفسيفساء الجنائزية (لوحة عدد 9 ) عثر عليها بطينة بصفاقس تعود إلى القرن الثالث بعد الميلاد وتشخص عازفي عود ذي عنق طويل أو بالأحرى ڨنبري إذ يحمل جل صفاته بدء بامتداد العنق واحتوائه على ملاوي وصولا إلى الصندوق المصوت المتخذ من ترس سلحفاة. وهو دليل قاطع على استمرارية استعمال الڨنبري لدى المحليين رغم رواج الـ”بندريوم” عندهم، وهو عود إغريقي-روماني ذو عنق سميك ويحمل أربعة أوتار(المؤدب، 2008، ص. 352).
لوحة عدد 9 : فسيفساء، محفوظة بالمتحف الأثري بصفاقس، تعود إلى القرن الثالث ميلادي، تمثل مشهدا جنائزيا لفقيد متمدد على أريكة حذوه شخصية تمسك بعود طويل العنق له صندوق من ترس سلحفاة.
من المؤكد أن الڨنبري قد تواصل وجوده بكامل بلاد المغرب في ظل الحضارة العربية الإسلامية إلا أنه لم يظهر من خلال المصادر بصفة مستقلة فقد عملت أغلب المؤلفات الأدبية والفقهية التي تطرقت بشكل أو بآخر للآلات الوترية المغاربية على توصيفها بأسماء عامة كالمعازف أو العيدان والطنابير ولعل هذه الأخيرة -وهي التي يستدل بها على الأعواد الطويلة العنق- قد شملت الڨنابر أو ربما كانت فقط مقتصرة عليها إذ بالاطلاع على منمنمات مخطوطات “أناشيد القديسة ماريا” (Cantigas de Santa Maria) والتي وثقت لمجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية التي استعارها الإسبان من الأندلسيين خلال القرن الثالث عشر لا يوجد بها أي أثر للطنبور المشرقي بينما خلدت بعضها رسومات لڨنابر (لوحة عدد 10) تماثل طريقة تركيب ملاويها على أنف مستدير، ذات الطريقة التي كانت مستعملة في تونس والجزائر إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر11.
لوحة عدد 10 : منمنمات بمخطوط “أناشيد القديسة ماريا”، تعود إلى القرن الثالث عشر تشخص عازفي ڨنابر.
في مقابل ندرة المعلومات عن الڨنبري بالمصادر العربية طيلة الفترة الوسيطة والحديثة، فقد حظيت تلك الآلة بالاهتمام الشديد في كتابات الأجانب الغربيين منذ أن تكثفت زياراتهم للبلدان المغاربية خاصة خلال القرن التاسع عشر وتعرفهم عن كثب على عموم الشرائح الاجتماعية المحلية ونمط حياتهم. وقد استرعى انتباه هؤلاء الأجانب رواج تلك الآلة إلى حد أن “كرستيانوفيتش” ذكر أن “كل العرب[بالجزائر] تقريبا يعزفونها” (Christianowitsch, 1868, p. 31)، كما ورد على لسان “جول رواني” أن الڨنبري “صديق الشعب، إنه آلة شعبية بامتياز[…] وهي منتشرة من تونس إلى شواطئ المغرب الأقصى بين أيادي عمال المدن والحقول والشحن بالمواني وأصحاب الدكاكين والأطفال كما يفتخر كل بدوي أو حضري بمعرفته العزف على تلك الآلة البدائية حين يصاحب أغانيه” (Rouanet, 1922, p. 2929).
ونطلع على ذات الانبهار بمدى رواج تلك الآلة بين المغاربة أيضا واضحا في مقال “هنري جورج فارمر” الذي أكّد بأنه أكثر الآلات انتشارا بشمال إفريقيا “فهي آلة شعبية بالأساس […] وكل من هب ودب وأراد أن يختبر مقدرته في العزف أمسك بڨنبري أو ڨنيبري بدء بالصبي الصاخب مرورا بالشّحّاذ المنتحب والمنشد المتجول والعامل الكادح والتاجر الموّقر وانتهاءً بالفقير المتصوف في قبته وكل منهم يظن نفسه خبيرا به تماما كالعازف البارع” (Farmer, 1928, p. 25 ).
إزاء الشهادات المتعددة على انتشار الڨنبري في شمال إفريقيا والتي أوردها باحثون أجانب تناولوا بالدرس الموسيقات المغاربية إلا أنهم لم يتعمقوا فعليا في دراسة الموسيقى التونسية، يبقى السؤال المطروح هل كان لتلك الآلة في تونس ذات الرواج الذي عرفته في الجزائر والمغرب الأقصى خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟ مع العلم أن المعلومات الضئيلة التي أوردها التونسيون عنها كأمثال محمد بن عثمان الحشايشي والصادق الرزقي ترجعها إلى الجاليات المغربية التي كانت مقيمة بالبلاد؛ فقد ذكرها الأول كآلة مصاحبة للمدّاحة وهي طائفة من بلاد المغرب مستوطنة بتونس وتسترزق في الطريق العام بإنشاد روايات عن غزوات الصحابة (الحشايشي، 1994، ص. 253)، أما الثاني فقد أشار إلى أنها كانت منتشرة لدى “جالية برابرة المغرب الأقصى“ (الرزقي، 1967، ص. 58)، فهل يعني ذلك أنها آلة مستعملة بتونس ولكنها لا تنتمي للرصيد الارغنولوجي المحلي الرسمي؟
3. الشواهد الدالة على رواج آلة القنبري في تونس
تتوفر العديد من الأدلة حول رواج الڨنبري في تونس ابتداء من القرن التاسع عشر إلى حدود الربع الأول من القرن العشرين أغلبها معلومات قدمها غربيون زاروا البلاد في تلك الفترة أو استقروا بها أو استوطنوها خلال الحقبة الاستعمارية. ونظرا لاختلاف طبيعة المعطيات فإنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف وهي الكتابات والوثائق الايقنوغرافية والتسجيلات السمعية.
1.3 الشواهد المكتوبة
تضمنت مؤلفات الأجانب الغربيين الذين زاروا البلاد خلال القرن التاسع عشر إشارات متعددة للآلة، وهي شهادات يمكن الاعتداد بصدقها لأن جلها ورد في سياق وصف لمشاهد عاينوها دون التدخل في تفسيرها وتأويلها. إلا أن تلك الكتابات وأغلبها ينتمي إلى غير المختصين بالموسيقى لم تنصّ على تسمية الآلة بڨنبري إلا نادرا، بل وردت في أغلب الأحيان بتسمية “مندولين” أو قيثارة صغيرة وغيرها من التسميات التي تتطابق مع الثقافة الغربية. ولكن من خلال الأوصاف التي قُدّمت لها يمكن التمييز بينها وبين بقية الآلات الوترية المعفوقة التي تم الحديث عنها.
من بين تلك الشهادات شهادة الفرنسي “ليون ميشال” الذي كتب مؤلفة ذات طابع إثنوغرافي حول تونس إثر زيارته لها سنة 1867، وتحدث فيها عن مجموعة من الحكواتيين العرب المنتشرين على أبواب تونس وقد “كانوا يصطحبون معهم آلات وترية عربية من نوع المندولين و كانت أوتارها من خيوط” (Michel, 1867, p. 179). وأشارت كاتبة انقليزية -قدمت إلى تونس سنة 1882 وألفت كتابا يُعنى بوصف المجتمع التونسي- إلى الآلات الموسيقية العربية المستعملة ومنها “مندولين بها وتران تنقر أوتارها بقصبة صغيرة” (Patteson, 1885, p. 82) . وذكر قس إنجليكاني في كتابه المخصص لرحلته إلى القيروان سنة 1884 أنه استمتع هناك بمشاهدة عرض موسيقي بمقهى عربي أحياه ناقر بندير وعازف على آلة وصفها بأنها “نوع من القيثارات وتدعى ڨنبري Gimbrih” (Boddy, 1885, p. 164-165). وخلد مستشرق فرنسي في كتاب أرخ فيه يوميات رحلة جاب فيها طرابلس وتونس سنة 1890 ملامح موسيقي متجول كان يطوف بدكاكين سوق العطارين بالمدينة العتيقة ويغني ويعزف على عود، وحين يطلب منه عرض فنونه ويتقاضى ثمنا على ذلك يعتبر أجرا لا صدقة أو إحسانا. وقد وضّح الكاتب أن ذلك العود يسميه التونسيون ڨمبري Goumbri (Radiot, 1892, p. 209-211). ووثّق أحد محافظي متحف “شولا” بفرنسا في جرده لمعروضات إثنوغرافية وردت من تونس سنة 1893 ومنها ڨمبري / Goumbri موضّحا أنه “نوع من المندولين يستخدمه المتسولون العرب” (Renard, 1893, p. 104). وفي كتاب هو عبارة عن يوميات جولة في بلدان البحر الأبيض المتوسط شملت زيارة إلى تونس سنة 1991 تحدث فرنسي أنه شاهد في نهج باب المنارة شيخا يمسك بقيثارة صغيرة وقد تحلّق حوله حشد وكان يروي لهم قصصا بطريقة غنائية (Jousset, 1893, p. 253-254) كما أضاف الكاتب لتدعيم وصفه رسما للمشهد لا يترك مجالا للشك بأن الآلة هي ڨنبري (لوحة عدد 12). وفي نفس الفترة أورد الكاتب الفرنسي “هنري سوكات” الذي شغل خطة ناظر المدرسة الصادقية في كتاب هو بمثابة مذكراته الشخصية، أنه حضر خلال شهر رمضان عرضا موسيقيا في خيمة بالحلفاوين أحيته فرقة تعزف على آلاتها المعهودة وتصاحب فتاة كانت تغني وتجس على نوع من قيثارات (Souquet, 1892, p. 157 ) ويحيل أسلوب الوصف أن القيثارة المذكورة هي ڨنبري. وخلال تدشين ميناء تونس سنة 1893 تم استدعاء الكاتب الفرنسي “جاكينو بولنجى” الذي ألف كتابا حول ما شاهده في زيارته خصّص فيه فقرات مطولة لشخصية تدعى سالم وهو بائع خردوات متجول أسود كان يغري زبائنه للإقبال على بضاعته “بالرقص والعزف على قيثارات من الخشب المركبة على ترس سلحفاة” (Jacquinot-Boulanger, 1894, p. 56-57, 108) ويبدو أن تلك الآلة، التي تحتوي على وترين كما أشار إليها الكاتب في موضع آخر، لقيت استحسانه وابتاعها كتذكار، لا تعدو أن تكون إلا ڨنبري. كما أشار إليها فرنسي قدم إلى تونس سنة 1899 وشاهدها في المدينة العتيقة بيد “شيخ يحيط به ما لا يقل عن ثلاث مائة شخص وقد كان يروي لهم الحكايات التي لا تنتهي بحركات قوية وتصاحب نبراته القوية آلة صغيرة من الخشب تشبه القيثار الصغير” (Rey, 1900, p. 42). كما تطرق الموسيقي “انطونان لافاج” للڨنبري في كتابه الذي خصصه للحديث عن الموسيقى العربية في تونس وجعله ضمن قائمة الآلات الموسيقية التقليدية التونسية محتلا المرتبة الثانية بعد آلة العود (Laffage, 1907, p. 3, 6).
2.3 الشواهد الإيقنوغرافية
بالموازاة مع الشهادات المكتوبة المتعددة للأجانب حول الڨنبري في تونس، وهي عبارة على سيل من معلومات يتطلب حصرها عملا ببليوغرافيا ضخما يتجاوز إطار هذا المقال، تبرز الوثائق الإيقنوغرافية التي شخصت الآلة في تونس كأحد أهم الأدلة الملموسة لحضورها ورواجها بل والقادرة على تبيين خصوصياتها التي لم تتمكن الكتابات من الإفصاح عنها. ومن بين أقدم الوثائق المشخصة للڨنبري رسم أنجزه الإيطالي “رينالدو ناني فاينتينو” حين قدم إلى تونس سنة 1828 (Errario, 1834, p. 538)، وقد احتوى على مجموعة من الآلات الموسيقية والأدوات والأواني التونسية التي تمثل إحدى خصوصيات البلاد وتعبر عن هويتها في تلك الفترة، وقد تم استغلال الرسم كصورة توضيحية في كتاب صدر سنة 1834 حول لباس مختلف الشعوب (لوحة عدد 11)، ومن بين الآلات الموسيقية التي اختار الرسام توثيقها صورة تقريبية للڨنبري ولكنها كافية للإحاطة بأدق تفاصيله كالعنق الطويل والشكل الكمثري للصندوق المصوت الصغير والفتحات على محمل التوافقات وامتداد وترين مربوطين بملاويين ومرورهما على فرس وهي كلها تفاصيل تتطابق مع العينات الأصلية للڨنبري المحفوظة حاليا بالمتاحف الأوروبية.
لوحة عدد 11 : رسم لـ”رينالدو ناني فاينتينو” / تونس سنة 1828 وعلى اليسار جزء من الرسم يشخص ڨنبري ( Errario, 1834, Tav. 54)
إضافة إلى ذلك تمظهر الڨنبري في أكثر من مرة كآلة مصاحبة للحكواتيين المتجولين أو ما كان يطلق عليهم بـ”الفداوي” ضمن رسومات بمؤلفات اعتنت بوصف رحلات إلى تونس والتعريف بخصوصياتها على غرار ذاك الذي صاغه “جوسات” سنة 1891 (لوحة عدد 12) والرسم الذي أنجزه الصحفي والرسام الفرنسي “غاستون فويّا” حين زار تونس سنة 1896 لـ”فداوي” بصدد سرد حكاياته لجمع من المتفرجين وقد أمسك بڨنبري (لوحة عدد 13).
لوحة عدد 12 : رسم بكتاب. فداوي في تونس سنة 1891 يعزف على ڨنبري ويتحلق حوله حشد من المستمعين (Jousset, 1893, p. 254)
لوحة عدد 13 : رسم بكتاب. فداوي في تونس سنة 1896 يمسك بڨنبري (Vuillier, 1896, p. 41)
وفي ذات السياق التوثيقي الاثنوغرافي، صدر مقال بمجلة فرنسية سنة 1902 حول الاحتفالات المقامة في شهر رمضان بتونس وقد احتوى على العديد من الرسومات من بينها مشهد لعرض مسرح خيال الظل “الكراكوز” وقد حضره بعض المتفرجين ومن بينهم عازف أسود يمسك بڨنبري وينقر على أوتاره بمضراب (لوحة عدد 14) مما يدل على أنه كان يقوم بالمصاحبة الموسيقية للعرض الفرجوي وهي من الإجراءات المعهودة في مسرح “الكراكوز” بشهادة محمد بيرم الخامس الذي وصفه بكونه ” أماكن للصبيان ليلا يلعب فيها بتصاوير من وراء الستار بالخيال من الصور في نور المصابيح ويسمى المكان خيال الظل وربما أحضر فيها نوع من السماع [الموسيقى]”(محمد بيرم الخامس، 1884، ص. 116-117).
لوحة عدد 14 : رسم بمجلة عرض كراكوز بتونس وبقرب شاشة العرض عازف ڨنبري يصاحب المشاهد (Mess, 1902, p. 25)
في مقابل قلة الرسومات الموثقة للڨنبري بالمؤلفات والتي تُعدّ كشهادات لما عاينه الأجانب في تونس وحاولوا نقله طبقا لواقعيته، فقد عرف الڨنبري حضورا مكثفا في الصور الفوتوغرافية التي حولت إلى بطاقات بريدية ووقع تداولها منذ نهاية القرن التاسع عشر الى ثلاثينيات القرن العشرين، ومن بينها صورة متجر لبيع التحف بأسواق المدينة وقد وقف صاحبه خلف دكانه، وتظهر في الخلفية صورتين معلقتين لمحمد الهادي باي مما يدل على أن البطاقة التقطت في فترة حكمه ما بين 1902 و 1906، ويتقدم الصورتين معلاق تتدلى منه كمنجة وثلاثة ڨنابر(لوحة عدد 15) وهو ما يفيد أن الڨنبري كان يحظى بسوق مزدهر يكثر فيه العرض والطلب.
لوحة عدد 15 : بطاقة بريدية التقطت بتونس ما بين سنوات 1902- 190612
يكاد الڨنبري أن يكون أهم آلة موسيقية ظهرت في أعمال الفوتوغرافيين الأوروبيين الذين استقروا بتونس خلال بداية القرن العشرين، فقد شخصه المصوران “لينرت” و”لاندروك” والمصور “أوجات شاتلان” ضمن مجموعة من صور لفتيات عاريات وراقصات، وهي تقليعة فنية عرفت أوجها في تلك الحقبة في إطار ما يعرف بالاستشراق الاستعماري، وكان للڨنبري حضوره في تلك الأعمال إمّا بصفة فردية كآلة مرافقة للعنصر الأنثوي أو برفقة الآلات الخاصة بالرقص كالدربوكة والطار والمزود[مزمار الجراب]. ومن الملاحظ أن الڨنبري يعمل في تلك الصور على تأثيثها بموسيقي غير مسموعة ولكنها مرئية، كما أنه يتحول إلى أيقونة ترمز للعوالم الخفية لجسد الأنثى “الشرقية” –حسب المنظور الغربي الاستشراقي- في كامل تجلياته وإيحاءاته الجنسية. ومن خلال تلك الوظيفتين التي على أساسهما اختار الفوتوغرافيون الأجانب تمثيل تلك الآلة في أعمالهم التي التقطوها في تونس، يمكن ملامسة مدى ارتباط الڨنبري بشرائح مهمشة من نسوة تونسيات كانت أغلبها ولا شك تمتهن البغاء كي تسمح بتصويرها في وضعيات إباحية، فقد بينت الدراسات أن فوتوغرافيي تلك الفترة لم يكن باستطاعتهم التقاط صور للمسلمات من العائلات المحافظة ولذلك فقد “اجبروا على الالتجاء للنساء من عامة الشعب والبدويات اللاتي لا تتحجبن وإلى الموسيقيات والغانيات وإلى أتعسهن من المومسات” (Mandery, 1995, p. 295.). إلا أنه ورغم كل الانتقادات التي قد توّجه لتلك الصور فإنها تبقى من الوثائق ذات القيمة التاريخية والتوثيقية التي لا مناص من اعتمادها لدراسة الڨنبري وتتبع حضوره في بداية القرن العشرين.
لوحة عدد 16 : بطاقة بريدية لعازفة ڨنبري، صورة التقطها “لينرت” و”لاندروك” في تونس ما بين سنوات 1900- 1910.
لوحة عدد 17 : فرقة موسيقية ترافق راقصة ومن الجهة اليمنى عازف مزود وحذوه عازفة ڨنبري. صورة التقطها “لينرت” و”لاندروك” في تونس ما بين سنوات 1900- 191013
لوحة عدد 18 : فرقة موسيقية ترافق راقصة، وعلى اليمين عازفة ڨنبري. صورة التقطها “لينرت” و”لاندروك” في تونس ما بين سنوات 1900- 191014
لوحة عدد 19 : صورة لعازفة ڨنبري للمصورين “لينرت” و”لاندروك” التقطت في تونس ما بين سنوات 1900- 191015
لوحة عدد 20 : ثلاث فتيات، على اليمين عازفة ڨنبري متكئة على الباب. صورة للمصورين “لينرت” و”لاندروك” التقطت في تونس سنة 190016
لوحة عدد 21 : صورة لفتاة تجس على ڨنبري، للمصورين “لينرت” و”لاندروك” التقطت في تونس ما بين سنوات 1900- 191017
لوحة عدد 22 : صورة لثلاث فتيات وعلى اليسار آلة ڨنبري، صورة التقطها المصور “أوجات شاتلان” بتونس ما بين سنوات 1903-191418
3.3 الشواهد السمعية
من الطريف أن الڨنبري كان من أول الآلات الموسيقية التونسية التي حظيت بتسجيل صوتي ضمن باكورة التسجيلات الموثقة لأثر صوتي تونسي. ويعود الفضل في ذلك للطبيب الفرنسي “ليون أزولاي” العضو بمؤسسة الأنثروبولوجيا بباريس الذي اغتنم فرصة انعقاد المعرض العالمي بباريس سنة 1900، ليسجل أكثر من ثلاث مائة اسطوانة على آلة فونوغراف تضم أغاني ومعزوفات ولغات ولهجات للعديد من الدول والشعوب التي شاركت في ذلك المعرض ومن بينها تونس التي وثق لها ثمانية نماذج صوتية ضمت تلاوة لقصار السور من القرآن وقراءة مقطع من التوراة وشعر ملحون وحكاية مضحكة بلهجة مدينة تونس وأغاني شعبية بعضها بأصوات رجالية وأخرى بصوت امرأة، وعزف منفرد على ڨنبري الذي ذكر بتسمية “ڨنيبري” وأخيرا عزف منفرد على المزود19. وقد حفظت كل التسجيلات بأول متحف فونوغرافي بفرنسا خصص حسب ما وضحه “ليون أزولاي”، للباحثين في اللسانيات والإثنوغرافيا والموسيقى(Azouly, 1902, p. 653, n° 1). ومن المرجح أن تكون العينات التي سجلت قد تم اختيارها عن قصد لتتماشى مع اهتمامات إثنوغرافية سعت فقط لتوثيق الجانب الشعبي السوقي، إذ من بين 140 تونسي مشارك بالمعرض(Charles-Roux, 1902, p. 209) وقع تسجيل أفراد من الشرائح الدنيا من المجتمع التونسي والذين تم انتقائهم بناء على اقتراحات اللجنة الاستعمارية المكلفة بتمثيل تونس (Azouly, 1902, p. 665, n° 2)، فقارئ القرآن قد أخطأ في إعراب ونطق العديد من الكلمات، أما بالنسبة للمغنين فإن عدم تمكنهم من التحكم في الطبقة الصوتية يؤكد أنهم كانوا من غير المحترفين، كما كانت الطرفة المروية سمجة، وهي كلها دلالات تبين أن تسجيل الڨنبري والمزود قد وردا في سياق تسليط الضوء على الثقافة التونسية في تجلياتها الشعبية البسيطة، كما تفيدنا بأن آلة الڨنبري تنتمي لتلك المنظومة الثقافية بل وتمثلها موسيقيا، ورغم ذلك فقد تجاوز العزف المنفرد عليه المجال الذي أسند له والصورة النمطية التي تجعل منه آلة “بسيطة” أو “بدائية”، إذ يبين التسجيل أن له طاقة صوتية واضحة وجرس مميز مكّناه من مضاهاة بقية الوتريات في ذلك العهد من ناحية الأداء والتعبير والتنفيذ الدقيق للأبعاد الصوتية. ويحيلنا التسجيل الذي يدوم 2.45 دقيقة ويحتوي على أربعة مقاطع على تقصي الخصوصيات الصوتية الموسيقية للڨنبري ومعاينة الرصيد الذي يؤدّيه.
يبين التسجيل أنه تم استعمال مضرب للعزف على الڨنبري وأنه قد وظف بطريقة الصد والرد المعتمد في آلة العود ولكن دون اللجوء إلى طريقة الفرداش وقد عوضت هذه الأخيرة بنقر الوترين في ذات الوقت وذلك كنوع من الزخرف. ورغم عدم وجود مصاحبة إيقاعية لتحديد الضروب فإن موازين المعزوفات وسرعة حركتها تحيل على أنها قطع موسيقية مخصصة في أغلبها للرقص(لوحة عدد 23 و 24 )20.
لوحة عدد 23 : تدوين تقريبي للمعزوفة الثانية الموقتة بالتسجيل من 1.11 دقيقة إلى 1.45 دقيقة
لوحة عدد 24 : تدوين تقريبي للمعزوفة الرابعة الموقتة بالتسجيل من 2.21 دقيقة إلى نهاية التسجيل.
أما من الناحية اللحنية فقد اقتصرت المساحة الصوتية للڨنبري على سداسية ولم تتجاوزها في كل القطع، ومع ذلك فقد كانت تلك المساحة كافية لتنفيذ جملة من الطبوع التونسية (لوحة عدد 25) التي وردت بنفس الكيفية التي تؤدى فيها في الأغاني الحضرية لتونس في بداية القرن العشرين. وهو ما يشير إلى انتماء الڨنبري في تونس إلى المجال الحضري والأرصدة الموسيقية المتداولة في المدن.
تحيل وفرة شهادات الأجانب المكتوبة حول القنبري في تونس وتعدد المستندات الإيقنوغرافية التي شخصته من رسومات وصور شمسية إلى جانب توثيقه ضمن أولى التسجيلات الصوتية بمطلع القرن العشرين، أنه كان من أكثر الآلات الموسيقية الوترية رواجا في تونس على نفس الشاكلة التي كان بها في بقية الأقطار المغاربية، كما أن العديد من الشواهد تؤكد أنه كان أحد الأيقونات الدالة على الثقافة الموسيقية الشعبية التونسية وأنه كان ينتمي للشرائح الاجتماعية المحكوم فيها أو تلك التي تصنفها أدبيات الاخباريين بـ”العامة” وبـ”الرعاع” و”الأوباش” والتي تجمع ما بين العمال وصغار التجار والفقراء والمهمشين. فالقنبري يعدّ آلة الفداوي والمداحة والمتسولين وعروض الكراكوز والراقصات. بل هو إحدى العلامات الرامزة لتلك الطبقات وتعبيراتها الموسيقية وأذواقها والتي لا ريب أنها كانت منافية لذوق “الخاصة” أو “النخبة الاجتماعية” والذي تؤثّثه الأجراس الصوتية للموسيقيين المحترفين الذين كانوا يستنكفون من استعمال الڨنبري فهم حسب رواية “جول رواني” كانوا “يرفضون العزف عليه خشية الحط من شأنهم” (Rouanet, 1922, p. 2929) كما أشار “هنري جورج فارمر” أنه “نادرا ما نجده بيد موسيقي محترف يعمل بفرق الحواضر لأنه عادة ما يوجه اهتمامه حين يتعلق الأمر بآلات وترية معفوقة إلى أكثرها رقيا كالعود أو الكويتره أو الطنبور “(Farmer, 1928, p. 25).
ويمكن ملامسة الموقف المزدري للڨنبري والمحقر له من طرف النخبة المثقفة التونسية والتي اختزلها الصادق الرزقي حين صرح بأن الڨنبري : “ساقط ليس له صدى حسن، ولا تلتذه المسامع” بل وأرجع أصله إلى “دواخل الصين” (الرزقي، 1967، ص. 58) وكأنه بذلك يتبرأ منه وينفي قطعيا أصوله المحلية، تلك الأصول التي تشير المعطيات أنها متجذرة في الثقافة المغاربية الأمازيغية منذ العصور القديمة وأن الڨنبري عرف حضورا في تونس خلال كل حقبها التاريخية، ولكن يبقى السؤال كيف لآلة استطاعت أن تصمد وتستمر لأكثر من ثلاثة آلف سنة، أن تختفي وتتلاشى في غضون العقود الثلاث الأولى من القرن العشرين إذ أنه بعد هذه الفترة لا يوجد لأثر حولها؟
4. أسباب اختفاء الڨنبري من المشهد الموسيقي التونسي
يرى الباحث “لورونس ليبان” أن أسباب اندثار الآلات الموسيقية يعود إلى عدة عوامل منها : ” تغير الأذواق وتطور طرق الأداء، أو مستجدات قد تطرأ على المواد وتقنيات الصناعة أو على المحفزات التجارية والسياسية، أو على حاجيات التعبير الشخصية لصانع الآلات أو للموسيقي، أو على حركة السكان، أو فقدان راعي أو تدمير ثقافة برمتها” (Libin, 2007, p. 883). وإزاء اختفاء الڨنبري من المشهد الموسيقي بتونس في ثلاثينيات القرن العشرين فإن أسباب اندثاره تبدو جدُّ مرتبطة بمجمل المستجدات والتغيرات التي حصلت في تلك الفترة غير أنه من المرجح أن لا تكون لها علاقة بعوامل ذوقية وأدائية، إذ لا بد وأن يكون الڨنبري قد استطاع عبر تاريخه المديد استيعاب كل التحولات الذوقية والأسلوبية الموسيقية المساوقة للحضارات المتعاقبة على البلاد. كما أنه من الصعب أن تكون المواد أو تقنيات الصناعة إحدى عوامل اندثار الڨنبري فهو من الآلات التي كانت تعتمد على مواد أولية متوفرة وغير باهظة التكاليف، كما أن صناعته لا تقتضي جهدا مقارنة ببقية الآلات الوترية المتزامنة معه كالعود أو الرباب والتي يجب أن يراعي في صناعتها جملة من المواصفات تجعلها قادرة على توليد طاقة وترددات صوتية خاصة بالأنساق الموسيقية التي ينفذها العازفون المحترفون، بل إن أجراسها الموسيقية تعدّ في حد ذاتها إحدى أهم العناصر الأساسية المشكّلة لهوية الأنماط المتداولة لديهم، وتلك المواصفات والخصوصيات الصوتية النموذجية التي تبني على مقاييس محكمة، لا يمكننا الجزم بتوفرها في الڨنبري، فجل العينات مختلفة الأحجام والمواد، كما أن الڨنبري لا يرتبط بنمط موسيقي محدد يلزمه بأداء أجراس صوتية مخصوصة، بل ولعل هذه الصفة التي تتركه منفتحا على كل الأنماط وقادرا على تنفيذ كل ما يحلو في أذهان عازفيها دون التّقيّد “المتزمت” بقواعد الموسيقات المقننة المتداولة، يمثل أحد الأسباب التي جعلت منه أكثر الآلات الوترية انتشارا. وبالتالي فإن بقية العوامل التي ذكرها “لورونس ليبان” قد تكون الفواعل المباشرة في إزاحة الڨنبري وتغييبه، وتبعا لذلك يتعين البحث عن أسباب بعيدة عن الڨنبري كآلة أو بالأحرى كأداة صوتية والتحري عن رُعاتها من مستخدمين ومستهلكين لها.
اعتمادا على ما قدمه كل من “جول رواني” و”هنري جورج فارمر” حول هوية عازفي الڨنبري فإن عددا منهم كانوا لا يسترزقون منه بل يستعملونه كوسيلة تسلية وترفيه، بل يبدو أن أعداد المقبلين عليه من هؤلاء الهواة كان كبيرا إلى حد أن “كرستيانوفيتش” تهيّأ له أن الكلَّ كان يعزف الڨنبري، وجعله يتساءل : “هل لأنه أسهل عزفا من بقية الآلات أم لأنّ ثمنه زهيد؟” (Christianowitsch, 1868, p. 31). ويمكن تخيُّل مدى الغبطة التي كان يشعر بها طفل صغير أو شاب أو كهل حين يتمكن من استخراج بضع نغمات من آلة في المتناول أو عزف مقطوعة عليها في ظل ندرة المناسبات التي يمكن فيها للمرء الاستماع لآلات موسيقية تصدح من قبل الفرق المحترفة أو لنقل عدم تواتر تلك الظروف بالنسبة لعامة الشعب. إلا أن المستحدثات التي طرأت على كيفية بث الموسيقى في بداية القرن العشرين مع انتشار استخدام الحاكي قد قوّض الإثارة التي يمكن أن يحدثها مجرد نقر على آلة من قبل هاوي، بل يبدو أن التسلية التي كانت ممارسة تطبيقية على الڨنبري وتجربة تخاض لاستخراج الأنغام ومحاكاة الألحان وربما استنباط بعضها، قد تحولت إلى مجرد استهلاك للاسطوانات والاستمتاع بالإصغاء إلى تسجيلات الموسيقات المشرقية والتونسية لشركات “غراموفون” و”بوليفون” و”باتي” التي غزت الأسواق وصارت رائجة بمقاهي أصبحت تستقطب مولعين يمضون وقتهم في الاستماع إليها مقابل زيادة طفيفة في المشروبات (دليل معرض حكايات عن الحاكي، 2006، ص. 9-11). وقد استرعت تلك الظاهرة السياح الأجانب الذين زاروا تونس في مطلع القرن العشرين وتحدث بعضهم منذ سنة 1908 عن وجود مقاهي في باب سويقة “تصدح بها أصوات الغراموفون التي تبث أغاني عربية لجمهور شديد الاهتمام والإعجاب بتلك الألحان” (Graham, 1908, p. 101)، ولم تقف تلك الظاهرة على رواد المقاهي بل تجاوزتها لتتبلور كحدث فاصل في تاريخ الموسيقى بتونس عبّر عنه عثمان الكعاك بمصطلح “الانقلاب الفني” الذي جعل من الحاكي يقرّب المسافات ويدخل الفن للبيوت ويستولي على أجواء الشارع (الكعاك، 1982، ص. 37). ومن المرحج أنه في غمار ذاك “الانقلاب” بدأ هواة الڨنبري يتخلون عنه مقابل الشغف بالاختراع الجديد وفقد الڨنبري بذلك جزء كبيرا من رُعاته الذين كانوا يساهمون في حركية سوق صناعته وتجارته والذي سيعرف الركود ثم الاضمحلال بمجرد التوقف عن طلبه.
بالموازاة مع تراجع استعمال الڨنبري من قبل ممارسي الموسيقى من الهواة، فقد بدأت الآلة تتقهقر في نفس الفترة مع أفول نجم “الغانيات” التونسيات المسلمات والذي كانت تمثل أحد آلاتهم الوترية المفضلة بل وتعدُّ حسب ما تحيله شهادات الأجانب وصورهم الاستشراقية كأهم أيقوناتهن. و”الغانيات” أو ما يطلق عليهن في أدبيات القرن التاسع عشر والسجلات الرسمية بالعاهرات ومفردها عاهرة، هن صنف من نسوة متحررات في مجتمع تقليدي محافظ كن لا يمانعن من الاختلاء بالرجال ومسامرتهم ومعاقرة الخمر وتعاطي المخدرات. وللإشارة فإن تلك التسمية ليست مرادفة للبغايا أو للمومسات إذ أن هاته الأخيرات كن يمتهن التجارة الجنسية التي كانت من المحرمات المدانة بشدة في تونس قبل الفترة الاستعمارية ويعاقب ممارسيها بالقتل، بينما كانت العاهرات يحترفن إلى جانب الغنج وآداب المجالسة والإغراء، العزف والغناء والرقص، بل كن الوحيدات من بين المسلمات اللاتي تمتهن تلك الصنائع اذ أن “مطلق النسوة التونسيات” كن حسب ما أورده محمد بيرم الخامس “لا تغنين أبدا ولو بين أيدي أزواجهن” ولذلك فقد كان يلتجأ “لعاهرات مغنيات” لأحياء الولائم والأعراس (بيرم الخامس، 1884، ص. 143). وقد زخرت كتابات الرحالة الأجانب بالحديث عن أولئك الغانيات مطلقين عليهن تسمية “عالمات”21 إلى حد أنهن برزن كعنصر قار فن المشهد الموسيقى التونسي طوال فترة التاريخ الحديث. وقد بيّنت تلك الكتابات أنه رغم ازدراء التونسيين لسلوكياتهن اللاّأخلاقية فإنهم كانوا متيمين بعروضهن، وأنهن كن جد مطلوبات عند الطبقات الحاكمة والثرية حيث كانوا يستقدموهن لتسليتهم وإحياء سهراتهم واحتفالاتهم بالغناء والرقص (Marcel, 1851, p. 111 ; Dunant, 1858, p. 205; Flaux, 1865, p. 160 ; Perry, 1869, p. 351; Des Godins de Souhesmes, 1880, p. 202 )، بينما كانت الطبقات الأقل ثراء تتجه خلسة إلى ديارهن التي تقع في حارات خاصة حيث يؤجروهن لتقديم عروض موسيقية هناك، من ذلك السهرة التي تمكّن الكاتب الفرنسي “غي دو موباسون” من حضورها في مدينة تونس سنة 1887 وبقي مذهولا من الكيفية التي كان يتعامل بها المحليون مع مجموعة من الغانيات كن يؤدين أغنية صحبة فرقة موسيقية فقال في شأنها : ” كان الجميع يستمع اليهن بانتباه شديد فلا حديث ولا ضحك بل إصغاء مركز. أين نحن؟ [تسائل الكاتب] هل نحن في معبد ديانة همجية أم نحن في ماخور؟ إننا في ماخور، نعم في ماخور” (Maupassant, 1890, p. 190 ). وإن كان “غي دو موباسون” قد استطاع التكشف على ذلك العالم السري فإن غيره من الأجانب لم تسنح له مثل تلك الفرصة فقد كانت الغانيات المسلمات ترفض المثول أمام غير المسلمين أو لا يسمح لها بذلك (Reid, 1882, p. 219 ; Bernard, 1892, p. 213) وهو ما جعل المصري محمد فريد بك ينوّه بحرص التونسيين على حفظ الأعراض إلى درجة أنه “ لا يجوز لمسيحي أو يهودي أن يدخل في بيوت العاهرات المسلمات وإلا خيف عليه القتل“ (فريد بك، 1902، ص. 72). لم يقف دور الغانيات عند حدود التسلية بل نظرا للمبالغ الضخمة التي كانت تتلقاها مقابل خدماتها الموسيقية، فقد مثّلت دخلا مهما لخزينة دولة البايات بما كانت تدفعه من ضرائب وهو ما قد يفسر انتشارهن وكثرة أعدادهن الذي فاق في مدينة تونس لوحدها الثمانمائة في تسعينيات القرن التاسع عشر (Kerrou et M’Halla, 1991, p. 211). إلا أن تلك الشريحة وما تمثله من غنج وحرفية موسيقية وبراعة في الرقص لم تستطع مثيلاتها من اليهوديات التونسيات -حسب شهادة الأجانب- إلا محاكاتها بطرق فضة School, 1844, p. 133) ؛ Lubomirski,1880, p. 68-70 ( عرفت نهاية مأساوية في نهاية القرن التاسع عشر وذلك إثر عملية تدجينهن من قبل الحكومة الاستعمارية بمقتضى قرار بلدي صدر في 16 مارس 1889 وأصبحن بعرفه مومسات كغيرهن من بقية البائسات اليهوديات أو الأوربيات واللاتي خضعن للمراقبة الصحية ولإقامة شبة جبرية في الماخورات العمومية إلى سن الخمسين (Kerrou et M’Halla, 1991, p. 210). وبالتالي فقدت الغانيات ميزاتهن كموسيقيات وتحولت إلى مجرد بائعات جنس، وخسر الڨنبري بذلك أحد أبرز مستعمليه أو بالأحرى من كنّ يضمونه إلى رصيدهن الأرغنولوجي.
كما لم تنج بقية مستعملي القنبري من المسترزقين به من ذات المصير الذي لحق بالغانيات، إذ إلى جانب فقدان العازفين الجوالين للعديد من الفضاءات التي كانوا يقدمون فيها عروضهم جراء اكتساح الحاكي لها في عشريات القرن العشرين. فقد لاحقتهم القوانين الاستعمارية التي أجبرتهم على دفع ضرائب كانوا معفيّين منها في حكومات البايات والتي وإن كانت تخضع الموسيقيين المحترفين في الفرق الوترية إلى دفع ثلث أرباحهم ونصف أرباح فرق “الطبالة” كضرائب (Lanessan, 1887, p. 178-179 )، فقد كانت تغض الطرف عن العديد من المسترزقين من عروض الفرجة في الطريق العام إذ كانوا -حسب توصيف الحشايشي لهم- يعتبرون من عداد الشحاذين والمتسولين لا أصحاب مهن فنية (الحشايشي، 1994، ص. 253-254). إلا أن اقتحام عديد الإيطاليين من الموسيقيين الجوالين ومحركي الدمى للمشهد التونسي منذ انتصاب الحماية وانتشارهم في الساحات العمومية وإقبال الجاليات الأوروبية المستوطنة بالبلاد على استهلاك عروضهم، دفعت بالسلطات الاستعمارية إلى اغتنام الفرصة لزيادة دخلها وذلك بسنّ جملة من القوانين صدرت أولاها في 20 فيفري 1888 (Fallot, 1888, p. 69) ونقحت ما بين السنوات 1893 إلى 1901 (Journal des Tribunaux Français en Tunisie, 1898, p. 283 ; 1902, p. 30) وفرضت على كل ممتهني العروض دفع أداءات بلدية لم يسلم منها أصحاب العروض المحلية. ومن المرجح أنه في خضم تلك الظروف تم التخلى عن الڨنبري من قبل أمهر العازفين عليه إذ دُفِع بأغلبهم تدريجيا للتخلص من المظاهر الدالة على صفاتهم الموسيقية التي توجب عليهم دفع ضرائب لا يقدرون على أدائها والاكتفاء بالاستجداء والتسول كبقية الفقراء والمتشردين الذين غصت بهم المدن التونسية خاصة بعد هجرات العديد من الريفيين إليها إثر حركة الاستيطان الاستعماري لأراضيهم.
أما بالنسبة لعروض خيال الظل “الكراكوز” والتي كان بعضها يوفر ملاذا لعازفي الڨنبري كي يصاحبوا مشاهدها ويملؤون الفراغات بين فصولها الدرامية بالمعزوفات. فقد عرفت في ظل السلطة الاستعمارية عديد المضايقات، إذ كان محل انتقادات الأجانب الذين شاهدوها في تونس بدعوى أنها تحتوي على مشاهد خليعة وإباحية لا يجب أن تعرض أمام الأطفال والذين يمثلون أكثر الرواد اقبالا على تلك الفرجة (Ditson, 1859, p. 220)، بل ودعى بعضهم إلى ضرورة منعها وذلك قبل الفترة الاستعمارية فتلك : “العروض الفاسقة والتي لا يسمح بها في الحضارات المتمدنة، يشاهدها [في تونس] الجنسان على السواء وأيضا الصبية والأطفال الصغار” (Perry, 1869, p. 306-307 ). وقد وصفها آخرون بكونها تقوم على شخصية محورية وهو “الكراكوز وعوض أن يتسلح بعصى مثل الشخصيات المضحكة لدينا فهو يستعمل عضوه الذكري والذي يجعلونه ضخما. والمسرحيات هي في غاية الغباء فمواضيعها تتمثل في حبك المؤامرات والمضاجعة واللواط” (Bertholon, 1889, p. 415). ويبدو أن تلك الحملات ضد مسرح الكراكوز قد جعلت المستعمر يتخذ قرارا بغلق العديد منها أو عزلها في أماكن بعيدة منذ تسعينيات القرن التاسع عشر (Daubeil, 1897, p. 69) إلا أنه سمح بإقامتها خلال شهر رمضان. وقد ذكر الحشايشي أن لاعبيّ الكراكوز خلال ذلك الشهر “لا يقولون إلا كلاما طيبا ولا يفعل أمام الصبية الألعاب المفسدة الخبيثة للتربية” (الحشايشي، 1994، ص. 65) ورغم تخلي الكراكوز عن جانبه الإباحي في بداية القرن العشرين كما تبينه بعض المراجع (Mess, 1902, p. 25) فأنه لم يسلم من غضب السلطة لعدم توانيه عن السخرية من رموز الدولة وعلى رأسها الباي إلى حد أن الشرطة كانت تتدخل لمنع بعض المشاهد (Trouvé, 1898, p. 37) ورغم أن مسرح الكاركوز قد استمر كأحد أهم عروض الفرجة الذي كان يستهوي أعدادا غفيرة من الجماهير طيلة الربع الأول من القرن العشرين، مقاوما منافسة شديدة من المسرح والسينما في بدايتهما في تونس، إلا أنه توقف في أوائل الثلاثينيات بعد أن تم منعه بقرار حكومي على إثر تجرئ بعض عروضه على السخرية من المقيم العام (Pellegrin, 1932, p. 1) وبنهاية الكاركوز فقد الڨنبري آخر صروحه.
الخاتمة
يعود رواج استعمال الڨنبري في البلاد تونسية إلى فترات قديمة ترقى إلى العصر الحجري، وقد تواصل استعماله في ظل كل الحضارات التي تعاقبت عليها، إلا أن ندرة تشخيصاته الإيقنوغرافية خلال حقبة التاريخ القديم وعدم بروزه كآلة مرجعية في الفترة الوسيطة، وعزوف الموسيقيين المحترفين عنه خلال الفترة الحديثة يؤكد أنه يعد من الآلات التي لم تكن تنتمي إلى مجموعة الآلات الموسيقية المعترف بها من السلط الحاكمة ومواليها الذين تتالوا على حكم البلاد. وفي المقابل فقد بقي الڨنبري مرتبطا بعامة الشعب ومعبرا عنه بل إنه تمظهر كأحد علامات ثقافته، إلا أن ذلك الارتباط الوثيق جعله يفقد أهميته ووظيفته وينزوي ومن ثمة يختفي من المشهد الموسيقي حين تخلخلت توازنات تلك الثقافة الشعبية ووقع تهميشها لتتلاشى تدرجيا خلال الثلث الأول من القرن العشرين.
هكذا، فإن اندثار الڨنبري كآلة تؤدي وظيفة موسيقية، ثم زواله من الذاكرة الجماعية التونسية كرمز -وهو موت مضاعف -يشير إلى ضياع ثقافة موسيقية برمتها ضمت أعدادا كبيرة من ممارسي الموسيقى من الهواة الذين كانوا مولعين بالعزف عليه ومجموعات غفيرة من الموسيقيين الجوالين وموسيقيي الفرجة والموسيقيات الغانيات الذين وإن كانوا لا يحظون باعتراف رسمي بـ”موسيقيتهم” من قبل أقرانهم المحترفين فإنهم قد أثثوا لا فقط، جانبا مهما من المشهد الموسيقي التونسي في فترتهم، بل ولا شك أنهم أيضا و قد ساهموا في إثراء التراث الموسيقي التونسي الذي لا يزال حاضرا وشاركوا في نحت خصوصياته.
زيادة على ذلك، لا يمكن تحميل مسؤولية ذلك الضياع إلى السياسية الاستعمارية فقط بل والمرجح أنّ “النخب الاجتماعية التونسية” ساهمت فيه إذ كانت على ما يبدو في قطيعة مع الطبقات الشعبية فكانت متعالية عنها ومزدرية لكل تعبيراتها ولم تحرك ساكنا لأجل المحافظة على مقوماتها، في حين أنها دافعت بشدة حين شعرت بتهديدات تمس الموسيقيات التي تعبر عنها، وما مبادرتها بإنشاء الرشيدية في ثلاثينيات القرن الماضي، -حسب رأينا – إلا نوعا من الإبقاء على رصيدها الموسيقي أو بما أطلق عليه “المالوف” والذي يرمز إلى كيانها ومركزها الاجتماعي ونفوذها، ذاك النفوذ الذي تواصل حتى بعد الاستقلال وتمظهر موسيقيا في اتخاذ “المالوف” من بين العديد من الأنماط الموسيقية التقليدية التونسية، كنموذج وحيد مُدرّس في البرامج الرسمية للتعليم الموسيقي، كما أنه حاز اهتماما إعلاميا مفرطا وعومل كابن مدلل للسلطة، في حين همشت العديد من الأنماط بل وتم التنصيص على إقصاء بعضها ومنعت من الظهور في المرافق الاعلامية العمومية إلى غاية التسعينيات من القرن الماضي.
إن “موت” الڨنبري في تونس، يقود إلى الإقرار بأن البعد الرمزي للآلات الموسيقية يفوق أهميتها الصوتية، فهي ليست مجرد وعاء أو محمل للموسيقات المستخرجة منها بقدر تمثلها كعنصر أساسي لنسق ثقافي لمجموعة ما، وما تحتويه تلك الثقافة من معايير ومضامين فكرية وعقائدية وتصورات للكون. وبانتهاء تلك الثقافة تنتفي معها أكثر الآلات الموسيقية ترميزا لها على غرار حالة الڨنبري في تونس.
القائمة البيبليوغرافيّة
-
- بيرم الخامس، محمد، صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، 1884، القاهرة، المطبعة الإعلامية، ج.2.
-
- الحشايشي، محمد بن عثمان، 1994، العادات والتقاليد التونسية: الهدية أو الفوائد العلمية في العادات التونسية، تحقيق الجلاني بن الحاج يحيى، تونس، سيراس للنشر.
-
- دليل معرض حكايات عن الحاكي، المجموعة الخاصة للحبيب بوغرارة، 2006، اشراف علمي مراد الصقلي، مركز الموسيقى العربية المتوسطية، تونس، وزارة الثقافة والمحافظة على التراث.
-
- الرزقي، صادق، 1967، الأغاني التونسية، تونس، الدار التونسية للنشر.
-
- رشيد، صبحي أنور، 1970، تاريخ الآلات الموسيقية في العراق القديم، بيروت، المؤسسة التجارية للطباعة والنشر.
-
- رشيد، صبحي أنور، 1975، الآلات الموسيقية في العصور الإسلامية، بغداد، دار الحرية للطباعة، مطبعة الجمهورية.
-
- عاشور، أحمد، 1978،» ظهور آلة القمبري بتونس وكيفية حماية الآلات الشعبية من الاندثار«، مجلة الحياة الثقافية، تونس، عدد 5، وزارة الشؤون الثقافية.
-
- فارمر، هنري جورج، 2007، »”آلة شعبية من شمال افريقيا« ، تعريب محمد الأسعد قريعة، الحياة الثقافية، تونس، وزارة الثقافة، عدد 181، ص. 151- 160.
-
- فريد، محمد بك (المحامي)، د/ت، من مصر الى مصر رحلة سنة 1902 ببلاد ايطاليا وتونس والجزائر وطرابلس الغرب ومالطه، مصر، مطبعة الموسوعات بشارع باب الخلق لصاحبها اسماعيل حافظ.
-
- قطاط، محمود، 2006، آلة العود بين دقة العلم وأسرار الفن، مسقط/ سلطنة عُمان، مطبوعات مركز عُمان للموسيقى التقليدية.
-
- الكعاك، عثمان، 1982، الشيخ أحمد الوافي، تحقيق صالح المهدي، تونس، المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية.
-
- اللواتي، علي وزغندة، فتحي، 1992، الآلات الموسيقية المستعملة بتونس، تونس، وزارة الثقافة، مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء.
- المؤدب، أنيس، 2008، الثقافة الموسيقية بتونس خلال الفترة البونية والرومانية، تونس، دكتوراه بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس.
-
- Aydoun, Ahmed, 2009, Essai sur les musiques Amazighes du Maroc, Rabat, édition Aydoun.
-
- Azoulay, L., 1902, « Liste des phonogrammes composant le Musée phonographique de la Société d’Anthropologie», Bulletins de la Société d’anthropologie de Paris, Ve Série, t. 3, p. 652-666, [en ligne] consulté le 15 juin 2016. URL : http://www.persee.fr/doc/bmsap_0301-8644_1902_num_3_1_6077
-
- Baroin, Catherine, 2011 « L’odyssée africaine d’un cordophone rudimentaire, le « luth à pique intérieure » », Afrique : Archéologie & Arts, 7, [En ligne] consulté le 19 mai 2016. URL : http://aaa.revues.org/625 ; DOI : 10.4000/aaa.625
-
- Bernard, Marius, 1892, Autour de la Méditerranée, les côtes Barbaresques, De Tripoli à Tunis, Paris, Henri Laurens.
-
- Bertholon, Lucien, 1889, « Esquisse de l’anthropologie criminelle des tunisiens musulmans », Archives de l’anthropologie criminelle et des sciences pénales, Paris, G. Masson, Tome IV, p. 389-439.
-
- Blench, Roger, 1984, « The morphology and distribution of Sub-Saharan musical instruments of North African, Middle Eastern, and Asian, origin », Musica Asiatica 4, edited by Laurence Picken, London/New York, Cambridge University Press, p. 155-191.
-
- Boddy, Alexander Alfred, 1885, To Kairwân the Holy: scenes in Muhammedan Africa, London, Kegan Paul, Trench & Co.
-
- Charles-Roux, Jules, 1902, L’organisation et le fonctionnement de l’exposition des colonies et pays de protectorat : les colonies françaises / rapport général, par M. J.-Charles Roux, Exposition universelle de 1900, Paris, Impr. Nationale.
-
- Charry, Eric, 1996, «Plucked Lutes in West Africa: An Historical Overview», The Galpin Society Journal, 49, p. 3-37, [en ligne] consulté le 21 mai 2016. URL : http://www.jstor.org/stable/842390 doi:1
-
- Chouquet, Gustave, 1884, Le Musée du Conservatoire national de musique. Catalogue descriptif et raisonné, Paris, Firmin-Didot.
-
- Christianowitch, Alexandre, 1863, Esquisse historique de la Musique Arabe aux temps anciens avec dessins d’instruments et quarante mélodies notées et harmonisées, Cologne, Dumont-Schauberg.
-
- Daubeil, Jules, 1897, Notes et impressions sur la Tunisie, Paris, E. Plon, Nourrit et Cie.
-
- Des Godins de Souhesmes, Gaston, 1880, Tunis: histoire, moeurs, gouvernement, administration, climat, productions, industrie, commerce, religion, etc., Paris, Gustave Guérin, 3e édition.
-
- Ditson, George Leighton, 1859, The crescent and French crusaders, New York, Derby & Jackson.
-
- Dournon, Geneviève, 2007, « Instruments de musique du monde : Foisonnement et systématiques », Musiques une Encyclopédie pour le XXI siècle 5, sous la dir. de Jean-Jacques Nattiez, Actes Sud/Cité de la Musique, p. 833-868.
-
- Dunant, Henry J., 1858, Notice sur la Régence de Tunis, Genève, Jules-G. Fick.
-
- Engel, Carl, 1874, A descriptive catalogue of the musical instruments in the South Kensington Museum, Second Edition, London, George E. Eyre & William Spottiswood.
-
- Errario, Giulio, 1834, Il costume antico e moderno di Tutti I popoli, Firenze, Batellie figli.
-
- Fallot, Ernest, 1888, Notice géographique, administrative et économique sur la Tunisie, Tunis, Ch. Fath.
-
- Farmer, Henry George, 1928, « A North African Folk Instrument », The Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain and Ireland, n°1, Cambridge University Press, p. 24-34, [en ligne] consulté le 16 mai 2016. URL : http://www.jstor.org/stable/25221313
-
- Fétis, François-Joseph, 1869, Histoire générale de la musique ; depuis les temps les plus anciens jusqu’à nos jours, Paris, Firmin Didot Frères, Tome II.
-
- Flaux, Armand de, 1865, La Régence de Tunis au dix-neuvième siècle, Paris/ Alger, Challamel Ainé/ Bastide.
-
- Graham, Petrie, 1908, Tunis, Kairouan & Carthage, London, Heinemann.
-
- Hickmann, Hans, 1947, «Un instrument à cordes inconnu de l’époque copte», Extrait du Bulletin de la Société d’Archéologie copte, tome XII, p. 63-83, [en ligne] consulté le 12 juin 2016. URL : http://www.coptic.org/music/instru-cordes.htm
-
- Hickmann, Hans, 1949, Catalogue général des antiquités égyptiennes du musée du Caire, n° 69201-69852, Instrument de musique, Le Caire, Imprimerie de l’institut Français d’archéologie orientale.
-
- Jacquinot-Boulanger, Charles (pseudo Jacques de La Forge), 1894, Tunis-port de mer, notes humoristiques d’un curieux, Paris, Marpon et Flammarion.
-
- Jacquot, Albert, 1886, Dictionnaire pratique et raisonné des instruments de musique anciens et modernes, Paris, 2e éd., Lib. Fischbacher.
-
- Journal des Tribunaux Français en Tunisie, Revue pratique de Législation et de Jurisprudence, 1898 et 1902, Tunis, Imp. Française B. Borrel.
-
- Jousset, Paul, 1893, Tour de Méditerranée de Venise à Tunis par Athènes, Constantinople et le Caire, illustrations par R. de la Nézière, Paris, Librairies-Imprimeries Réunies.
-
- Kerrou, Mohamed & M’Hlla Moncef, 1991, La prostitution dans la Medina de Tunis aux XIXe et XXe siècles, Annuaire de l’Afrique du Nord, p. 201-221, [en ligne] consulté le 17 juin 2016. URL : http://aan.mmsh.univ-aix.fr/volumes/1991/Pages/AAN-1991-30_38.aspx
-
- Laffage, Antonin, 1907, La Musique Arabe. Ses Instruments et ses Chant, Tunis, Imp. E. Lecore-Carpentier.
-
- Lanessan, Jean-Louis de, 1887, La Tunisie, Paris, Félix Alcan.
-
- Le Quellec, Jean-Loïc, 2010 « Datations directes et indirectes des images rupestres en Ahaggar, dans la Tasili-n-Ajjer et l’Atlas saharien », Les nouvelles de l’archéologie, 120-121, p. 49-56, [en ligne] consulté le 24 mai 2016. URL : http://nda.revues.org/1002 ; DOI : 10.4000/nda.1002
-
- Libin, Laurence, 2007, « Histoire, symbolisme et fonctions des instruments de musique occidentaux », Musiques, une Encyclopédie pour le XXI siècle 5, sous la dir. de Jean-Jacques Nattiez, Actes Sud/Cité de la Musique, p. 869-893.
-
- Lubomirski, Jozef, 1880, Les Pays oubliés. La Côte barbaresque et le Sahara, excursion dans le vieux monde, par J. Lubomirski, Paris, E. Dentu.
-
- Mahillon, Victor-Charles, 1893, Catalogue descriptif et analytique du musée instrumental du conservatoire royal de musique de Bruxelles, Gand, 2e édition, Lib. Ad. Hoste.
-
- Mandery, Guy, 1995, « Photographies et cartes postales à Tunis, 1881-1914 », Annuaire de l’Afrique du Nord, sous la dir. Ahmed Mahiou & Françoise Lorcerie, Paris, CNRS, IREMAM, Edition du CNRS, p. 291-298.
-
- Marcel, J. J., 1851, Histoire de Tunis précédée d’une Description de cette Régence par le Dr Louis Frank, Paris, Firmin Didot Frères,.
-
- Maupassant, Guy de, 1890, La vie errante, Paris, Paul Ollendorff.
-
- Mess, P. F., 1902, « les fêtes du Ramadan à Tunis », L’Illustration, n°3072, p. 22-26.
-
- Michel, Léon, 1867, Tunis, Paris, Garnier,
-
- Patteson, Barbe, 1885, Chips from Tunis: A glimpse of Arab life, London, Hachette & Co.
-
- Pellegrin, Arthure, 1932, « Le théâtre arabe peut-il se développer ? » Les Annales coloniales, Paris, 32éme année, n°49, Samedi 7 mai 1932.
-
- Perry, Amos, 1869, Carthage and Tunis: past and present: in two parts, USA, Providence Press Company, Printers.
-
- Radiot, Paul, 1892, Tripoli d’Occident et Tunis, Paris, E. Dentu.
-
- Reid, Thomas Wemyss, 1882, The land of the Bey. Being impressions of Tunis under the French, S. Low, Marston, Searle, & Rivington.
-
- Renard, L., 1889, « Catalogue des objets offerts au musée ou acquis par la société en 1893 », Bulletin de la Société des sciences, lettres et beaux arts de Cholet, Cholet/France, Imp. H. Farré, p. 102-105.
-
- Rey, R., 1900, Voyage d’études en Tunisie (10-28 avril 1900), Paris, Ch. Delagrave.
-
- Rouanet, Jules, 1922, «La Musique Arabe » & «La Musique Magrhrebine », Encyclopédie de la musique et Dictionnaire du conservatoire, sous la dir. de Albert Lavignac et Lionel de la Laurance, Paris, Librairie Delagrave, t. I, p. 2676-2944.
-
- School, Gottfreid, 1844, Une promenade à Tunis en 1842, Paris, Dentu.
-
- Souquet, Henri, 1892, Journal d’un lycéen de Tunis, Paris, Gedalge.
-
- Trouvé, Alexis, 1898, Au désert, Moulins, Crépin-Leblond.
-
- Villoteau, Guillaume André, 1826, De l’état actuel de l’art musical en Egypte, ou relation historique et descriptive des recherche et observations faites sur la musique en ce pays, Description de l’Egypte, T. 14, Paris, Panckoucke.
- Vuillier, Gaston, La Tunisie, illustrée par l’auteur, Tours, Alfred Mame & fils, 1896.
أنيس المؤدب. ،أستاذ محاضر مؤهل لإدارة البحوث الموسيقيّة .المعهد العالي للموسيقى، جامعة تونس