الكاتب : أنيس الخبثاني | باحث تونسي وطالب بمرحلة الدكتوراه في الموسيقى والعلوم الموسيقية
خلاصة :
نسلّط الضوء في هذا المقال على بعض الآلات الموسيقيّة ذات الطابع الميثولوجي التي تعود إلى الحقبة الرومانيّة والتي نجدها مجسّدة بكثافة في المحامل الأيقنوغرافية بين المواقع الأثريّة والمتاحف الوطنية التونسيّة. ونشير إلى أنّ البحث حول خصوصيّات هذه الآلات قد تطلّب منّا، وجوبا، دراسة مورفولوجيّة وأورغنولوجيّة. كما نرنو من خلال هذا المقال إلى إعادة إحياء بعض الآلات الموسيقيّة التي كانت ولا تزال شاهدة على الازدهار الثقافي لولاية “إفريقيا”..
- لذكر مصدر المقال : الخبثاني، أنيس، 2016 : « الآلات الموسيقيّة في تونس خلال الحقبة الرومانيّة : واقع مشهود وتثمين منشود في ظلّ اعتراف مفقود ! »، المركز التونسي للنشر الموسيقولوجي، https://ctupm.com/ar/the-tunisian-instruments-in-tunisia-during-the-roman-period
- حمّل المقال في صيغة PDF.
مقدّمة
حين نمعن النظر في مختلف المتاحف التونسيّة والمواقع الأثريّة، تتراءى لنا مجموعة من المحامل الأيقنوغرافية تعود إلى الفترة الرومانية، التي كانت ولاتزال شاهدة على الازدهار الثقافيّ والحضاريّ الذي بلغته تونس في تلك الحقبة التاريخيّة.
تعدّ المرحلة الرومانيّة إحدى أبرز المراحل التي مرّت بها البلاد التونسيّة، حيث غدت ولاية “إفريقيا” 1 رمزا للثقافة والتثاقف الحضاريّ مع بدايات القرن الثاني ميلادي عند تأسيس أوّل مدرسة فسيفساء في تلك الفترة (YACOUB, 2003, p. 5)، أفرزت بالتالي العديد من فنّاني الفسيفساء الذين اهتمّوا كثيرا بالمواضيع والمشاهد الميثولوجية وصارت منازل الخُطباء والوجهاء الأثرياء مزركشة بهذا الفنّ.
شملت المواضيع الميثولوجيّة المجسّدة في مختلف الوثائق الأيقنوغرافية الأنشطة والآلات الموسيقيّة، ويمكننا، من خلال بعض الأعمال الفنّية، ملاحظة دقّة تصميم الآلات التي تحاكي الواقع الاجتماعي رغم انتماء بعض المواضيع والمشاهد المجسّدة إلى التيّارات الهيلنستية 2. والطريف في الأمر، أنّ الأفارقة استطاعوا أن يجدوا توليفة بين مواضيع ميثولوجيّة هيلينستيّة وآلات موسيقيّة ذات خصائص مورفولوجيّة لاتينيّة، على غرار “أورفيوس” حاملا آلة الـ”قيثارة” أو الربّة “أثينا” المجسّدة بآلة مزمار مزدوج لاتيني !
لم تكن البلاد التونسية بـمنأى عن الازدهار الثقافي الموسيقي كما تبلغنا الوثائق الأيقنوغرافية، في حين أنّ أغلب البحوث تغضّ الطرف عن نشأة ثقافة موسيقيّة تسبق الفتوحات الإسلاميّة أو تتجاهل محور الموسيقى ونجدها تتطرّق إلى مختلف جوانب الثقافة، غير مهتمّة بدور الموسيقى وخصائصها ورمزيّتها في المجتمع لدى الأفارقة، رغم الكمّ الهائل من الوثائق التاريخيّة والأيقنوغرافيّة التي تقبع في شتّى المتاحف والمعالم الأثريّة التونسيّة. فهل من المنطق عدم الاكتراث بموروث ثقافيّ مكث بالبلاد التونسيّة طيلة عقود أو اعتباره في منأى عن الذاكرة الموسيقيّة التونسيّة ؟
إنّ ما تحمله الموسيقى التونسيّة من تنوّع لحنيّ وإيقاعيّ يجعلنا نتساءل عن مدى تأثير الحضارات المتوسّطية التي سبقت الحضارات العربيّة الإسلاميّة في رسم ملامح الثقافة الموسيقيّة التونسيّة. فالثقافة بالبلاد التونسية لم تنشأ من ثقافة مستقلّة بذاتها شأنها شأن البلدان الأخرى، كما لا يوجد مجتمع ما لم يتأثّر بثقافة الحضارات الأخرى أو لم يشهد تأثيرات ثقافيّة خارجيّة (CADOTTE, 2007, p.1).
ومن هذا المنطلق، سنبحث في هذا المقال الخصائص الأورغنولوجية والمورفولوجيّة لبعض الآلات الموسيقيّة الوتريّة والهوائيّة والإيقاعيّة ذات الطابع الميثولوجي، المجسّدة في شتّى المحامل الأيقنوغرافيّة علّنا نظفر بإجابة شافية حول تقنيات العزف عليها، آملين أن نعيد الاعتبار لهاته الآلات التي مكثت طيلة عقود بالبلاد التونسية وبالتالي تثمين موروث ثقافيّ غابت عنه الدراسات والبحوث المستفيضة رغم بعض المحاولات التي لا تفي بالغرض.
1. الآلات الوتريّة
1.1 آلة اللّيرة
عرفت الحضارات المتوسّطية القديمة والمجتمعات الهيلينستيّة آلة اللّيرة وهي عبارة عن ترس سلحفاة يخرج منه مقبض من كلّ جهة تشدّ إليهما الأوتار من الأعلى إلى الأسفل وتثبّت في المشط آخر الصندوق. كما حظيت آلة اللّيرة بمكانة هامّة لدى المجتمعات الأرستقراطيّة المتوسّطية القديمة حيث كانت تعزف من قبل الأعيان والأميرات. وقد تمّ العثور على بعض العيّنات الأثريّة في قبرص، عبارة عن دمية خزفيّة للأميرة “برينيس” زوجة ملك قبرص ومصر “بطليموس الثاني” تعود إلى الفترة ما بين 340-275 قبل الميلاد (VENDERIES, 2002, p. 182).
ويقرّ الباحث “آلان بودوت” بأهمّية تعلّم الآلات الوتريّة في مدارس الموسيقى بروما حيث يتردّد العديد من العازفين والشباب على تعلّم آلتيْ اللّيرة والقيثارة (BAUDOT, 1973, p. 20) ممّا يفسّر الكمّ الهائل من الوثائق الإيقنوغرافية وخاصّة لوحات الفسيفساء التي تجسّد مراحل تعلّم الآلات الوتريّة.
في ظلّ انتشار آلة اللّيرة بين الحضارات المتوسّطية القديمة، عرفت إفريقيا هذه النوعيّة من الآلات الوتريّة، ومن خلال لوحات الفسيفساء والتجسيد الأيقنوغرافي يمكننا ملاحظة المكانة الهامّة التي كانت تحظى بها خصوصا مع التوارث الفكريّ والثقافيّ الذي شهدته البلاد في تلك الفترة وخاصّة مع التوريث الميثولوجي الذي أفضى إلى تبنّي خصائصه ومبادئه وحتى ديانته في وقت لاحق.
ولكن ذلك لا ينفي أنّ لـ”إفريقيّا” طابعها الخاصّ بحسب الباحث “عمار المحجوبي” الذي يقول: “وبالرغم من تأثير التيّارات الإيطاليّة والشرقية، وطغيان المواضيع التي أملتها الحضارة اليونانية والرومانية، فإنّ فنّ الفسيفساء في إفريقيا قد فرض طابعه وبلغ درجة عالية من الطرافة والذاتية“(المحجوبي، 2016، ص. 107) ويمكننا التماس هذا التطوّر أيضا بالنسبة إلى الآلات الوتريّة والموسيقيّة ككلّ ممّا ينمّ عن بلوغ الأفارقة درجة مرموقة من الرقيّ والازدهار الثقافي.
ونشير إلى أن آلة اللّيرة من بين الآلات التي شهدت تطوّرات هيكليّة ومورفولوجية أفضت إلى ظهور جدل بين جميع الباحثين الأورغنولوجيين والمختصّين في هذا المجال، حيث أقرّ البعض بضرورة تواجد الصندوق المصوّت على شكل ترس سلحفاة ويرى البعض الآخر من الباحثين أنّ الآلات التي تحمل صندوقا مصوّتا خشبيا، لا تعدو أن تكون آلة قيثارة حيث شاع أنّ آلة اللّيرة فقدت إشعاعها وعُوّضت بآلة القيثارة (SCOTT, 1969, p. 409)، في حين ذكر الباحث “روني جانوت” أنّ آلة اللّيرة عرفت تطوّرا هامّا مورفولوجيّا لتشبه القيثارة في حدّ ذاتها (JANNOT, 1979, p. 480) ولكنها حافظت على خصائصها الموسيقيّة.
2.1 آلة القيثارة
تصنّف آلة القيثارة من بين الآلات التي عرفت تطوّرا مورفولوجيا هامّا عبر الحقب التي سبقت الفترة الهيلينستية، وهي تنسب إلى الإله “أبولون” وميوزة الموسيقى “إيراتو” حيث نجدها مجسّدة في العديد من المحامل الأيقنوغرافية التونسيّة وخاصّة لوحات الفسيفساء الشاهدة على قيمة هذه الآلة لدى الأفارقة. ونلاحظ من خلال المحامل الأيقنوغرافية صندوقا مصوّتا على شكل مستطيل كما نلاحظ أضلاعا ترتبط بالصندوق المصوّت.
تختلف نماذج آلة القيثارة من حضارة إلى أخرى، وقد عرفت “إفريقيا” هذه النوعيّة من الآلات خلال الفترة التي سبقت الغزو الروماني. ونشير، في سياق آخر، إلى أنّ بعض الدراسات حول مورفولوجية آلة القيثارة الرومانية لم تكشف لنا بعد عن بعض العيّنات المصنوعة وعن مميّزاتها وخصائصها (BELIS , 2004, p. 529)، واكتفت بتقديم الملامح المورفولوجيّة والخصائص الأورغنولوجيّة في البحوث، ممّا يستوجب إعادة هيكلة هذه الآلة لفهم آليات العزف عليها وتقنياته انطلاقا من المحامل الأيقنوغرافيّة وبعض المصادر التاريخيّة التي تبقى عنوانا بارزا وهامّا في كشف كلّ الخصائص المورفولوجيّة والموسيقيّة.
من جهة أخرى، تؤكّد بعض البحوث التي أجريت حول آلة القيثارة الرومانية أنّ العيّنات التي عثر عليها، تبدو هيكليّا تقليدا للنموذج الإغريقي، وحتى بعض الآلات الأخرى التي تمّ العثور عليها والتي تعود إلى فترة حكم الإمبراطور “هادريانوس” والإمبراطور “أنطونيوس”، لا تعدو أن تكون اشتقاقا لبعض العيّنات التي يرجع تاريخها إلى القرن الثاني والثالث والرابع قبل الميلاد بحسب الباحثة “آني باليس”(BELIS ,2004 ,p. 529).
لوحات الفسيفساء المتواجدة في المواقع الأثريّة التونسيّة والمتاحف، تبيّن لنا تنوّعا وتطوّرا شهدتهما إفريقيا خلال الفترة الرومانية في صناعة آلة القيثارة، وهو ما يؤكّد نظريّة الباحثة “آني باليس” في هذا الإطار حيث ترى أنّ كلّ فنّان أو نحّات قدّم تجسيده الفنّي لآلة القيثارة واكب في ذلك النموذج المتداول في فترته (BELIS, 2004, p. 529)، وبالتالي لا يمكن حصر أشكال آلة القيثارة شأنها شأن الآلات الأخرى في نموذج مفرد.
تعدّ الخصائص الأورغنولوجيّة لآلة القيثارة مختلفة بعض الشيء عن الآلات الوتريّة الأخرى التي كانت منتشرة في تلك الحقبة التاريخية على غرار آلة عود “باندريوم” Pandorium أو آلة اللّيرة بمختلف أحجامها. ومن بين الخصائص الأورغنولوجيّة التي عرفت تطوّرا نذكر عدد الأوتار من 11 وترا إلى 15 وترا (JANNOT, 1979, p. 489) وهو ما يسمح بعزف العديد من المقامات والأجناس وتوسيع مساحة الأجراس الموسيقيّة.
تقرّ بعض المحامل الإيقنوغرافيّة لآلة القيثارة “المهد” التي تعود إلى منتصف القرن الرابع ميلادي بأنّ عدد أوتار الآلة لا يتجاوز السبعة (JANNOT, 1979, p. 489) وهو ما يرجّح المضيّ نحو البحث عن تطوير الآلة منذ تلك الفترة وانتقاء الخصائص المورفولوجيّة والأورغنولوجيّة التي تتماشى مع طموحات العازفين المحترفين في تلك الحقبة التاريخيّة.
الطول الجمليّ | 75 سنتيمترا |
العرض الجمليّ | 43 سنتيمترا |
طول المقبض العلويّ | 33 سنتيمترا |
السّمك | 2 سنتيمتر |
عدد الملاوي | 7 ملاوي |
لا يمكن نظريّا استيعاب عدد الأوتار في آلة القيثارة بالنظر إلى عدد الملاوي الموجودة فيها إذا ما استعملنا الملاوي المتعارف عليها. غير أنّ الملاوي التي كانت تستعمل خلال الفترة الرومانية مغايرة تماما. ونعتقد أنّ العنصر الواحد قادر على استيعاب وترين أو أكثر، كما يمكننا تجربة ذلك على الملاوي الحديثة. ومن الممكن أن يمرّ الوتر يليه وتر آخر ويشدّ في آخر الآلة أي في المشط في الثقب نفسه.
تشدّ الأوتار إذا من الجزء العلوي للآلة تحديدا في الملاوي، وتمرّ عبر الفرس وصولا إلى المشط حيث يقع تثبيتها، ونشير إلى أنّ علبة الصوت التي تتواجد في النموذج الروماني تحمل وظيفة الفرس والمشط معا ويقع تثبيت الأوتار في تلك العلبة. ومن الأرجح أن تتضمّن العلبة الفرس الذي تغطّيه قبل أن تشدّ الأوتار إليها.
2. الآلات الهوائيّة
2.1 آلة الشعيبيّة
تعرف هذه الآلة في عديد البحوث التي تعنى بالأورغنولوجيا على أنّها تنتمي إلى الآلات الهوائيّة ويكون الهواء العنصر الرئيسي لإحداث الذبذبات الصوتية كما تحتوي على أنابيب (BRIL, 1980, p. 44-45). جدير بالذكر، أنّ آلة الشعيبيّة تبقى من أكثر الآلات تجسيدا في المحامل الأيقنوغرافية التي ترافق الاحتفالات الـ”باخوسيّة” وترمز أنابيبها غير المتساوية والمرتبط بعضها ببعض، إلى التوافق المجتمعي بحسب الباحث “جاك بريل” (BRIL, 1980, p. 105).
مورفولوجيّا لدينا آلة هوائيّة ذات أنابيب مختلفة الطول على شكل شبه منحرف، ويبدو من الوهلة الأولى أنّ لكلّ أنبوب درجة موسيقيّة معيّنة تختلف بحسب طول الأنبوب وقوّة الهواء المنفوخ من قبل العازف.
ويبدو من خلال المحامل الأيقنوغرافيّة أنّ هناك نوعان من آلة الشعيبيّة. إحدى لوحات الفسيفساء التي عثر عليها بقرطاج وتعود إلى القرن الرابع، تجسّد لنا عازف شعيبيّة ذات أنابيب تبدو من القصب، المادّة الأساسيّة في صناعة آلة الشعيبية، حجمها يبدو كبيرا من خلال لوحة الفسيفساء، كما نلاحظ شريطا يجمع بين هاته الأنابيب.
في حين تجسّد لوحة فسيفساء أخرى عازف شعيبيّة في موكب “باخوس”، يبدو أنّ هذه الآلة لا تشبه مورفولوجيّا آلة الشعيبيّة المتكوّنة من قصب، كما نلاحظ أنّها لا تحتوي على شريط يربط بين الأنابيب ونعتقد أنّ هذه الآلة مصنوعة من الخشب وتمّ إحداث ثقوبها من الأعلى حتى الأسفل لإحداث الذبذبات الصوتيّة المفتعلة من قبل هواء العازف.
جدير بالذكر، أنّ صناعتنا لآلة الشعيبيّة الخشبية أثبتت أنّ كلّ فوهة من فوهات الأنابيب، تتّخذ درجة موسيقيّة معيّنة. ونرجّح نظريّة الباحث “تييودور ريناخ” الذي أثبت أنّ الفوهات الثمانية تعزف ديوانا موسيقيّا كاملا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدّة خصائص كقوّة الهواء وسرعة النفخ اللّذين احتسبهما الباحث “ريناخ” بالمعادلة التالية (REINACH , 1907, p. 101-102).
- ن = س/ 4 ط
- ن = عدد الذبذبات في الثانية.
- س = سرعة الصوت في الهواء (حدّدت من قبل تجربة “ريناخ” بـ340 مترا في الثانية).
- ط = طول كلّ أنبوب.
ونتحصّل إذا على الدرجات التالية حسب الترتيب التفاضلي من اليمين إلى اليسار (REINACH, 1907, p. 1025) :
(ري) أو (مي) مخفوضة، (مي) أو (فا)، (صول)، (لا) مخفوضة، (سي)، (دو) أو (ري) مخفوضة، (ري) أو (مي) مخفوضة، (مي) أو (فا)
2.2 المزمار المزدوج
ما يمكن ملاحظته من الوهلة الأولى من خلال الوثائق الأيقنوغرافيّة هو تنوّع نماذج آلات المزمار المزدوج خلال الفترة الرومانيّة. الـ”تيبيا” باللاتينية اكتست أهمّية لدى المجتمع الروماني وانتشارا واسعا في المستعمرات الرومانية على غرار مستعمرة إفريقيا. يقول الباحث “جيرارد بيرنون”: “لقد تعدّدت الآلات الموسيقية في روما. “التيبيا” نوع من الأولوس، كانت تحظى بمكانة خاصّة“.(PERNON, 1998, p. 12) الباحث “آلان بودوت” نفسه يقرّ بهذا التنوّع مبيّنا تعدّد نماذج آلات المزمار المزدوج والتي تتجاوز النماذج الإغريقية (BAUDOT, 1973, p. 29) .
وتقول الباحثة “فاليري بيشي” في هذا الصدد: “من بين الكلمات اللاتينية التي تنعت بها الآلات الموسيقيّة، نجد التيبيا. هذه الآلة من بين أشهر الآلات استعمالا في روما، كانت تصاحب الأعياد والشعائر والطقوس والمراسم، تنشّط الشوارع وتحيي أمسيات الطبقة الراقية من المجتمع” (PECHE, 2007,p. 22-29).
يعرف المزمار المزدوج لدى المجتمعات الرومانية بمخروطيّة شكله الذي تمّ توارثه من الأوترسقيين، الذين يعتبرون المصدر الرئيسي لنماذج المزمار المزدوج الروماني (HEURGON, 1961,p. 243-248). واستطاع الرومان أن يصنعوا العديد من النماذج لآلات المزمار المزدوج تتكوّن في مرحلة أولى من القصب الجافّ (BEN MANSOUR, 1979, p. 38) ثمّ عرفت هذه النماذج تغييرا جذريا في المادّة الأساسيّة التي تصنع منها وأصبحت تتكوّن من عديد المواد الأخرى كالخشب والعاج والعظام وحتى القرون والنحاس (JANNOT, 1979, p. 131)، ومن خلال ذلك يمكننا القول إنّ الرومان كانوا يبحثون عن المادّة التي بإمكانها استخراج أصوات نقيّة.
نوع آخر من المزامير انتشر بإفريقيا واستعمله الأفارقة في العديد من الأعياد والمراسم الجنائزيّة والشعائريّة هو المزمار المزدوج “الفريجي”، ومن الواضح أنّ هذا النوع من المزامير ترجع أصوله إلى “فريجيا”، وللإشارة فإنّ روما عرفت عبادات الربّة “قيبال” أو بالأحرى “مانيا ماتر” وكانت أوّل عبادات شرقية تجوب شوارع روما، بالإضافة إلى أنّ العديد من العازفين ذوي الأصول الفريجيّة كانوا يعزفون المزامير المزدوجة الفريجيّة مصاحبين العبادات وبعض العساكر على شرف الربّة “قيبال”، وقد انتشرت هذه العبادات في روما خلال الحرب البونية الثانية (LACROIX , 1982, p. 15) ممّا يفسّر تغلغلها بين ربوع إفريقيا.
يتكوّن المزمار الفريجي إذا من أنبوبين غير متساويين، أحدهما ذو فوهة ضيّقة يكتسي من خلالها طابعا صوتيا غليظا، في حين يعرف الأنبوب الآخر بفوهة تتكوّن من قرن ثور، وذلك لزيادة شدّة صوته (BALTY,2005, p. 401)، وقد أثبتت الدراسات والبحوث الأورغنولوجية والأكوستيكية أنّ مورفولوجية آلة المزمار الفريجي تكتسي خصائص صوتية هامّة من حيث قوّة الصوت وشدّته ويرجع ذلك بالأساس إلى نوعية الفوهة وكذلك الريشة اللّتين تلعبان دورا رئيسيّا في التحكّم في إصدار الصوت.
3. الآلات الإيقاعيّة
تعدّ الآلات الإيقاعية من أقدم الآلات التي عرفتها البشريّة حيث نجدها مجسّدة بكثافة في المحامل الأيقنوغرافية مرافقة للأعياد والاحتفالات الدينية والدنيوية خلال الفترة البونية والرومانية. وقد شهدت تونس في تلك الحقبة الزمنية تنوّعا في الآلات الإيقاعيّة على غرار الدفوف Typmanum والمضارب الرنّانة والكوسات Crotales حيث صاحبت الآلهة أمثال الربّة “فينوس” والإله “باخوس” والربّة “قيبال”.
ومن الواضح أنّ حضور الآلات الإيقاعيّة المشرقيّة (BEN MANSOUR, 1979, p. 43) في المواكب الـ”باخوسية” نتاج لتلاقح الحضارات وتعاقبها على الأراضي التونسيّة وموروث توارثته الشعوب وزجّت به في مختلف المراسم مع المحافظة على خصوصيّات الأفراد والعادات التي ما فتئت تشكّل النواة المجتمعيّة الأساسيّة في تلك الحقبة التاريخيّة، ونسلّط الضوء هنا على تكيّف الأفارقة مع سائر العادات المتأتّية من الحضارات المتوسّطية والمشرقيّة بل وقدرتهم على المحافظة على هذا الموروث.
3.1 آلة الدّف
أفضت الحفريّات الأثريّة التي قام بها “ألفريد ديلاتر” Alfred Dellatre في القبور إلى العثور على تماثيل فخارية صغيرة لنساء يعزفن آلة الدفّ تعود إلى الحقبة البونية (FERRON, 1969, p. 11)، وهو ما يفسّر انتشار هذه النوعيّة من الآلات قبل حلول الحضارة الرومانيّة، ويؤكّد توارث آلة الدفّ التي تعتبر آلة ذات أصول مشرقيّة.
جسّد الدفّ إذا في لوحات الفسيفساء مرافقا للاحتفالات الـ”باخوسية”، ويبدو من خلال المحامل الأيقنوغرافيّة أنّ هذه النوعيّة من الآلات كانت تعزف بكثافة من قبل جنس الإناث حيث جسّدت عازفات يحملن العديد من الأنواع والأشكال لهذه الآلة سواء في المراسم الجنائزيّة أو المحافل الدنيويّة.
ينسب الدفّ في موكب “باخوس” إلى عازفات يطلق عليهن اسم “باخوسيات” وقد وصف المؤرّخ اللاتيني “تيتوس ليفوس” الضوضاء العارمة التي يقمن بها (BEN MANSOUR1979, p. 43) إلى جانب الرقص والغناء، ممّا مهّد لتغلغل النشاط الموسيقيّ الصاخب الذي توارثه الأفارقة وأصبح جزءا من ثقافة المجتمعات المحلّية (BEN MANSOUR, 1979, p. 43).
تتجلّى آلة الدفّ من خلال المحامل الأيقنوغرافيّة في شكل جسم مستدير عادة ما يصنع من الخشب أو من المعادن (BEN MANSOUR, 1979, p. 43)، يشدّ له جلد يتمّ اختياره بحسب النوعيّة الأكثر نقاء على الأذن حيث ذكر المؤرّخ والخطيب الإغريقي “بلوترخس” أنّ الأفراد في المجتمعات الهيلينستية يمتلكون حاسّة سمع مرهفة (PLUTARQUE, 1900). كما نلاحظ من خلال المحامل الأيقنوغرافيّة تواجد شرائط تزيّن أحرف الآلة والتي يبدو أنّها اُتّخذت مهنة في تلك الحقبة التاريخية.
نلاحظ من خلال لوحات الفسيفساء اختلافا في كيفيّة مسك الآلة حيث من الممكن أن تُمسك باليد اليمنى ويتمّ النقر على وسطها باليد اليسرى للحصول على نبض قويّ في المقابل يُنقر على الحواشي لضبط الإيقاع الخفيف أو الضعيف. ولا تلغي هذه التقنية إمكانيّة مسك الآلة باليد اليسرى والنقر باليد اليمنى، كما أنّه من الممكن أن يكون لحجم الآلة دور أساسي في تحديد طريقة العزف حيث نلاحظ من خلال لوحة الفسيفساءأنّ الآلة صغيرة الحجم تُمسك باليد اليمنى ويتمّ النقر باليد اليسرى في حين تُمسك الآلة في اللّوحة باليد اليسرى وتُنقر باليد اليمنى اعتبارا لكبر حجم الآلة، وهو ما يدعم فرضيّة أنّ حجم الآلة يحدّد تقنية العزف.
3.2 آلة الصلاصل
تنتمي آلة الصلاصل إلى العبادات المرتبطة بربّة الفراعنة “إيزيس” (BAUDOT, 1973, p. 50) والتي تأثّرت بها الحضارة الرومانية واستطاعت أن ترسّخ هذه العقيدة في ربوع “إفريقيّا”. ونشير إلى أنّ الرومان استطاعوا “رومنة” هذه العبادات حيث أرادوا عبادات تشبه في مجملها العبادات الأصلية للربّة “إزيس” ولكن بخاصّيات لاتينيّة .(GUIMET, 1896, p. 67)
وصف “أبوليوس” آلة الصلاصل بأنّها آلة تحتوي على مجموعة من الشفرات المعقوفة ترتكز على حمّالة سيف تمرّ عبرها ثلاث أو أربع عصيّات، تهتزّ عند كلّ حركة لليد (APULEE, 1976, VI)، يذكر أنّ المواد الأساسيّة لصناعة الصلاصل هي البرونز والذهب حيث ذكر “أبوليوس” أنّ الذهب يمثّل المادّة الأساسيّة في صناعة الصلاصل احتفاء بالربّة “إيزيس” وتمجيدا لها (APULEE, 1985, XI).
ونشير إلى أنّ بعض العيّنات الأثريّة التي عثر عليها تبدو شبيهة بصفيحة حصان (LASSALLE, 1968, p. 257)، ومن الأرجح أن تكون الآلة مستوحاة من ذلك. يمكننا ملاحظة بعض مقاييس آلة الصلاصل بحسب العيّنة المحفوظة بمتحف مدينة “نيم” الفرنسية (LASSALLE, 1968, p. 258) :
الطول | 12.5 سنتيمترا |
العرض | 8 سنتيمترا |
السمك | 12 سنتيمترا |
خاتمة
مثّلت الموسيقى لدى الأفارقة جزءا مهمّا في حياة الفرد والمجتمع، خاصّة مع تنامي التسليم بالمعتقدات الرومانية ودياناتها والانبهار المفرط -في بعض الأحيان- بخصوصيات الثقافة اللاتينيّة، والسعي وراء تقليد النموذج الروماني بولاية “إفريقيّا”.
وقد شهدت الآلات الوترية تطوّرا ملحوظا مقارنة بالآلات الوتريّة التي سبقتها والمتعارف عليها خلال القرون السالفة. نظرة الأفارقة لآلة اللّيرة كانت في أغلبها محافظة على خصوصيّاتها الأورغنولوجية والمورفولوجية المتعارف عليها لدى الإغريق والتي تعلّقت نشأتها بالميثولوجيا، ولكن عرفت آلة اللّيرة أيضا تطوّرا مورفولوجيا وعوّض ترس السلحفاة بصندوق مصوّت خشبيّ مع المحافظة على الخصائص “الأكوستيكية” للآلة، غير أنّ بعض الباحثين صنّفوا الآلة على أنّها تنتمي إلى نوعيّة أخرى من الآلات الوتريّة، ولا يمكن بالتالي أن تنعت بآلة ليرة إلاّ إذا ما توفّر صندوق مصوّت على شكل ترس سلحفاة !
وتعتبر آلة القيثارة النموذج الأكثر تطوّرا من بين الآلات الأخرى، حيث شهدت عديد التحوّلات المورفولوجية وبعض الإضافات على مستوى عدد الأوتار والصندوق المصوّت. وقد أثبت النموذج الذي قمنا بصناعته جدوى هذا التطوّر حيث لاحظنا أنّ التخلّي عن الفرس وتعويضه بعلبة مستطيلة الشكل لتثبيت الأوتار، تبدو فكرة مبتكرة لزيادة عدد الأوتار وبالتالي عزف أكثر عدد ممكن من الأجناس والمقامات المتعارف عليها في تلك الحقبة التاريخية على الآلة نفسها.
من جهة أخرى، لم تكن آلة الشعيبيّة في منأى عن التطوّر الذي شهدته الآلات الموسيقية لدى الأفارقة، حيث عثر على بعض العيّنات الـمصنوعة من الخشب لتتحرّر بالتالي من الأساطير الميثولوجية التي كانت سببا في ابتكارها وفي اختيار مادّة القصب كمادّة رئيسيّة في صناعتها. وجاء اختيار مادّة الخشب لأسباب “أكوستيكية” حيث أثبت لنا النموذج الذي قمنا بصناعته، نقاء الصوت وخُلوّه من الاهتزازات الصوتية المتعارفة عن مادّة القصب. وهذا لا ينفي في المقابل، انتشار صناعة الشعيبيّة من مادّة القصب -المادّة المحبّذة- وما تجسيدها في مختلف لوحات الفسيفساء إلاّ دليل قاطع على ذلك.
في المقابل، لاحظنا وجود/ظهور مزامير مزدوجة قادرة على عزف مختلف الأنساق والأجراس الغليظة والحادّة، ويعود ذلك إلى ابتكار المفاتيح المعدّلة، بالإضافة إلى الأنابيب الجانبية. هذه الإضافات تنمّ عن تطوّر صناعة الآلات الموسيقيّة وعدم الاكتفاء بما توارثه الأفارقة والسعي وراء تحديث وابتكار آلات قادرة على بلوغ مختلف المساحات الصوتيّة، ويمكننا ملاحظة ذلك من خلال النموذج الذي قمنا بصناعته مقارنة بالنموذج الإغريقي.
لم تعرف في المقابل الآلات الإيقاعيّة في ولاية إفريقيّا تطوّرا هامّا كالذي شهدته آلات النفخ والآلات الوتريّة، واكتفى الأفارقة باستعارة بعض منها من الديانات الشرقية وطقوسها برمّتها على غرار عبادات الربّة “إزيس” عن طريق الصلاصل، كما نجد توارث آلات الدفوف التي تعتبر من أقدم الآلات الإيقاعيّة التي شهدتها تونس قبل الفترة الرومانية وتواصل انتشارها لتصبح من أبرز الآلات استعمالا في المحافل “الباخوسية” وغيرها.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هل تعتبر الآلات الموسيقيّة في تونس خلال الفترة الرومانيّة موروثا ثقافيّا وامتدادا مورفولوجيّا لسائر الآلات الموسيقيّة الأخرى المتعارف عليها اليوم على غرار مزمار الجراب وآلة الـقمبري؟
القائمة البيبليوغرافيّة
– المحجوبي، (عمار)،2016، “البلاد التونسيّة في العهد الروماني”، تونس، منشورات تبر الزمان.
- APULEE, 1976, Les métamorphoses, trad. Paul VALETTE, Paris.
- APULEE, 1985, Les métamorphoses, trad. Paul VALETTE, Paris.
- BALTY, (Jean), 2005, Thesaurus Cultus Et Rituum Antiquorum, Los Angeles, Getty Publications.
- BAUDOT, (Alain), 1973, Musiciens romains de l’Antiquité, Canada, , Kinchsiek
- BELIS, (Annie), 2004, « Reconstruction de la cithare romaine de concept : des sources écrites et figurées à l’instrument », In : Revue des Études Grecques, tome 117, Paris, p. 519-545.
- BEN MANSOUR, (Saida), 1979, « La mosaique d’Europe de la maison des Labrii », Antiqités Africaines, Tome 14, Editions du centre National de la recherche scientifique, Paris, p. 197-211.
- BRIL, (Jacques), 1980, A cordes et A cris : Origines et symbolisme des instruments de musique, Paris, Bibliothèque des signes Clancier-Guenaud..
- CADOTTE, (Alain), 2007, La romanisation des dieux: l’ interpretation romana en Afrique du Nord sous le Haut-Empire , Leiden-Boston, Brill.
- FERRON, (Jean), 1969, « Les statuettes au tympanon des hypogées puniques », In : Antiquités africaines, Aix-en-Provence, p. 11-33.
- GUIMET, (Emile), 1896, « L’Isis romaine », In : Comptes rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, 40ᵉ année, N. 1, Paris, p. 67-68.
- HEURAGON, (Jacques), 1961, La vie quotidienne chez les Etrusques, Paris, Hachette.
- JANNOT, (Jean-René), 1974, «L’aulos étrusque », In: L’antiquité classique, Tome 43, fasc. 1, Bruxelles, p. 118-142.
- LACROIX, ( Léon), 1982, «Texte et réalités à propos du témoignage de Lucrèce sur la Magna Mater », In : Journal des savants, Paris, p. 11-43.
- LASSALLE, (Victor), 1968, «Un fragment de chapiteau gallo-romain décoré d’un sistre au Musée archéologique de Nîmes », In : Revue archéologique de Narbonnaise, tome 1, Montpellier, p. 257-259.
- PÉCHÉ, (Valérie), 2007, « Musique à Rome », les dossiers d’archéologie n°320, supp. répertoire des Dossiers parus, France, p. 22-29.
- PERNON, (Gérard), 1998, Histoire de la musique, France, Edition Jean Paul Gisserot Coll. Bien-être.
- PLUTARQUE, 1900, De la musique , traduit par H. WELL & T. REINACH, Paris. URL : http://remacle.org/bloodwolf/historiens/Plutarque/musique.htm.
- REINACH, (Théodore), 1907, « Une flûte de Pan en bois découverte à Alise-Sainte-Reine (Alésia) », In : Comptes rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, 51ᵉ année, N. 2, Paris, p. 100-104.
- SCOTT, (J. E.), 1957, « Roman music », Ancient and Oriental music, Edited by Egon WELLESZ, Oxford University Press, p. 404-420.
- VENDRIES, (Christophe), 2002, « Harpistes, Luthistes et Citharôdes dans l’Egypte romaine. Remarques sur certaines singularités musicales », In: Revue belge de philologie et d’histoire, tome 80, fasc. 1, Belgique, p. 171-198.
- YACOUB, (Mohamed), 2003,Peinture de pierres : Les mosaïques du musée du Bardo, Sousse, Contraste Edition.
أنيس الخبثاني. باحث تونسي، طالب في مرحلة الدكتوراه في الموسيقى والعلوم الموسيقية